مجلة البعث الأسبوعية

في ذكرى رحيلها الثامنة والأربعين كوكب الشرق الحنجرة التي أعجزت العلم وجمعت بين القوة والعذوبة

جمان بركات

خصصت صحيفة الأهرام يوم 4 شباط 1975، الصفحة التاسعة للوفيات، وعلى العمودين الثالث والرابع بطول نصف الصفحة نشر الناعون كلماتهم الحزينة، فقد رحلت أيقونة الطرب عن عالمنا عن عمر ناهز 77 عاماً، تاركة إرث فني مليئ بالأعمال المميزة سواء بالأغاني أو الأفلام التي لا تزال تعيش إلى الآن رغم رحيلها منذ أكثر من 45 عاماً مرت على وفاتها، إلا أنها ما زالت حاضرة إلى الآن بصوتها المميز الذي خلق لها جمهوراً كبيراً ومحبين رأوها بمثابة الهرم الرابع فى مصر.

“أم كلثوم” أو كوكب الشرق” حنجرة أعجزت العلم وجمعت بين القوة والعذوبة، وصوت أمتع العالم شرقه وغربه، فقد كان ملهماً للشعراء والأدباء، وذكاء استطاع توظيف كل هذه الملكات ليبقى ويستمر ويكتب لصاحبته الخلود، وشخصية استطاعت أن تأسر الملايين وتحظى باحترام العالم، فلا يملك كل من يراها إلا أن يصغى ويصمت في حضرتها ويبقى مشدوداً مشدوهاً وكأنه مسحور بسحرها الخاص، فهي التي عبرت بأغنياتها عن كل العشاق، فقالت في الحب: “اللي شفته قبل ما تشوفك عنيه عمر ضايع يحسبوه إزاي عليّا”، ووصفت شوقها للحبيب قائلة: “كلموني تاني عنك.. فكروني.. صحوا نار الشوق ف قلبي وف عيوني”، وحين عانت من ظلم الحبيب وخيانته غنت له “كنت بخلص لك في حبي بكل قلبي.. وانت بتخون الوداد من كل قلبك” إنها كوكب الشرق أم كلثوم.

ولدت أم كلثوم في 31 كانو الأول عام 1898 في قرية طماي الزهايرة التابعة لمركز السنبلاوين في محافظة الدقهلية، اسمها الحقيقي فاطمة إبراهيم السيد البلتاجي، وعُرفت بعدة ألقاب أبرزها أم كلثوم ومنها: ثومة، الست، سيدة الغناء العربي، وكوكب الشرق، قيثارة الشرق، وفنانة الشعب.

أول صوت

استطاعت كوكب الشرق أم كلثوم، أن تترك بصمة في كافة الأحداث المهمة التي مرت على المؤسسات المصرية حينها، فكانت خير شاهد ومشارك، وهو ما صنع اسمها ومجدها.

في يوم 31 أيار عام 1934 بدأ بث الإذاعة واستمر إرسال اليوم الأول 6 ساعات، وكانت أول الأسماء التى شاركت في هذا اليوم أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب والشاعر علي الجارم وصالح عبد الحي والمونولوجست محمد عبد القدوس والموسيقيين مدحت عاصم وسامي الشوا، وفي الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة مساء انطلق صوت المذيع أحمد سالم مفتتحاً البث الإذاعي، وهو يقول هنا القاهرة سيداتي وسادتي أولى سهرات الإذاعة المصرية في أول يوم من عمرها تحييها الآنسة أم كلثوم.

سر “أنت عمري”

كتبت أم كلثوم، يوم 10 تشرين الثاني عام 1942، مقالاً في مجلة “الإثنين” عنوانه “لماذا أتحدى عبد الوهاب؟”، قبلها بأيام شهد “تياترو الأزبكية” وصلة ردح بين ثومة  وفرقتها وعبد الوهاب وفرقته أمام رواد المسرح.. ولكن ما السبب؟

قالت أم كلثوم في مقالها أن عبد الوهاب زارها في منزلها عارضاً عليها فكرة إنشاء نقابة للموسيقيين، وأقسم أنه لن يؤسسها دون انضمام أم كلثوم على أن يكون هو النقيب، رأت ثومة أن تولي عبد الوهاب منصب النقيب سيعني للجمهور أنه يغني أفضل منها فاعترضت على الفكرة وكتبت المقال لتحكي القصة.

بعدها بخمسة أيام رد عبد الوهاب بمقال في مجلة “آخر ساعة” تحت عنوان “ضربني وبكى وسبقني واشتكى” وحكى فيه القصة من وجهة نظره، ولم يمر وقت طويل حتى دخل مصطفى أمين على الخط وروى شهادته على ماحدث في سلسلة مقالات رصدت حلقات معركة النقابة بين ثومة  وعبد الوهاب، وكتبت الصحافة لتلقي مزيداً من الوقود على النار المشتعلة حتى أصبح حضور ثومة  وعبد الوهاب في مكان واحد كاختلاط الزيت بالماء.

سنة 1958 بدأ الحديث عن أغنية مشتركة تجمع العملاقين، استحسن عبد الوهاب الفكرة خاصة عندما عرض عليه الشاعر أحمد شفيق كلمات “أنت عمري” التي شعر عبد الوهاب أنها مناسبة لأم كلثوم فجس نبضها بطرح الفكرة على أحمد الحفناوي عازف الكمان الشهير في فرقتها، وافقت “الست” مبدئياً ولكن القدر رتب لقاء لبدء المشروع عندما مرض عبد الوهاب فزارته ثومة  في منزله بحضور عبد الحليم حافظ واتفقا على الأغنية.

بدأ عبد الوهاب التلحين، فاعترضت أم كلثوم على كلمة “بيشابي” في أحد الكوبليهات، ثم اعترض عبد الوهاب على كوبليه كامل، ولم يشأ شفيق أن يتمسك برأيه حتى تسير المركب، ولكن عبد الوهاب “المُوَسوِس” ظل يعيد ويعدل ويتردد لخمس سنوات كاملة، يأست أم كلثوم فأقنعت شفيق بأن يستعينا بكمال الطويل ليلحن الأغنية، وبالفعل لحن الطويل المقدمة الموسيقية، عرف عبد الوهاب الخبر من الصحافة فتحمس مجدداً ولحن الأغنية وسجلها بصوته.

في احتفالات الثورة عام 1963 سأل الرئيس عبد الناصر ثومة  وعبد الوهاب عن أغنيتهما التي تكتب الصحافة أنها لم تظهر للنور بسبب خلافاتهما، فسارع عبد الوهاب برد دبلوماسي حسم الموقف عندما قال أنه انتهى من تلحين الأغنية وتبقى بعض التفاصيل البسيطة، حرص عبد الوهاب على نفي أي خلاف بينه وبين ثومة  أمام الرئيس المفتون بصوت “كوكب الشرق”، وقادت الظروف “الست” لتجلس في الاستوديو مع “موسيقار الأجيال” الذي اقترح استخدام الغيتار الكهربائي في عزف صولو المقدمة، اعترضت ثومة  ولكن عبد الوهاب أقنعها عندما أسمعها عزف عبد الفتاح خيري للصولو ومرت الفكرة التي اعتبرتها الصحافة وقتها شرارة ثورة موسيقية.

وفي 29 كانون الثاني 1964 سجلت ثومة أغنية “أنت عمري”، ووافق اليوم الرابع عشر من رمضان وكانت ثومة وفرقتها صائمين، إلا أن التسجيل استغرق 12 ساعة، ورفضت الست مغاردة أي عازف للاستوديو وقت الإفطار حتى سجلت الكوبليه الأخير معلنة ميلاد أصعب وأشهر “لقاء سحاب” عرفته الموسيقى.

مجانين الست

كان للمعجبين بأم كلثوم مئات الطرائف والحكايات التي فاقت حدود العقل إلى الافتتان بفنها وسحرها إلى درجة الجنون. وفي أحد الأعداد النادرة من مجلة الكواكب الصادرة بتاريخ 7 كانون الثاني عام 1958 نشرت المجلة موضوعاً تحت عنوان “المعجبون فنون” ذكرت فيه بعض المواقف للمعجبين بأم كلثوم، ومن بين هؤلاء المعجبين معجب من بورسعيد غريب الأطوار يلاحقها في كل حفلة ويسافر ورائها إلى أي بلد تغني فيه مهما كان عناء السفر وتكاليفه، وكان يحمل صورها وكل ما يكتب عنها فى الصحف والمجلات ولا يتحدث إلا عنها حتى أطلق عليه المقربون منه “مجنون أم كلثوم”، وكان يعاني من عاهة في ذراعه وحرص بسببها على ألا يظهر أمام أم كلثوم، وفقد بسبب إعجابه وسفرياته وراءها الثروة التي ورثها عن والده، حتى سمعت عنه وعرفت حكايته ومدى تعلقه بها فأرسلت لمقابلته وشملته بعطفها ومودتها وكانت تصطحبه مع أفراد فرقتها في رحلاتها الغنائية، وأخيراً قررت كوكب الشرق أن يكون هذا المعجب متعهد حفلاتها أحمد الجمل.

ومن بين معجبي الست حسن صاحب محل مأكولات في باب الحديد ولم تكن تفوته حفلة من حفلات أم كلثوم حتى الخاصة فكان يبذل كل جهده لحضورها بجلبابه الصوف ليجلس في الصفوف الأولى ويصيح كلما غنت مقطعاً. وكانت أم كلثوم تعرف حسن وتستقبله أحياناً بين الوصلات وبين من تستقبلهم من خاصة المعجبين وأحياناً تلحظه بنظرة أو كلمة فيقذف طربوشه في الهواء، وكان من بين أشهر معجبي سومة والذي عرف بمجنون كوكب الشرق الحاج سعيد الطحان، صاحب أشهر جملة فى حفلات أم كلثوم “عظمة على عظمة يا ست”، و”تاني والنبي يا ست أنا جايلك من طنطا”، وكان يأتى من محافظة الغربية لحضور حفلات أم كلثوم، وهو تاجر مصري من مدينة طنطا، عُرفَ بهوسه الشديد بأم كلثوم.