الفنان عبد الرحمن مؤقت.. يروَض الحجر
فيصل خرتش
لم يدرس عبد الرحمن مؤقت في أكاديمية فنية، أو في مركز فنون تشكيلية، وإنما تلقى مبادئ النحت عندما كان في دار المعلمين بحلب، وأبدى شغفاَ بهذا الفن وعكف على ممارسته، مما أعطاه خبرة عفوية في إنتاج عدد من المنحوتات الحجرية.
والفنان مؤقت ينتمي إلى أسرة حلبية، تولد 1946، عمل كمعلَم في إحدى مدارس حلب، وكان لا يتوانى عن متابعة هذه الهواية، فكان يستحضر الحجارة الصلبة من جبل قريب ويعالجها، ثمَ راح يتابع الكتب الفنية، بالإضافة إلى حضوره المعارض، وأقام معرضه الأول فكان صيغة محدثة تنطلق من تحوير الأشكال بحيث تقترب من صيغ النحت الأوروبي، إنها تشبه منحوتات النحات الإنكليزي (هنري مور) وهي أشبه ببيوض كبيرة لمخلوقات من عصر الديناصورات، لقد غابت عنها الملامح الواضحة والتفاصيل الدقيقة، عموماَ فقد كان هذا المعرض نتيجة جهد شخصي وإرادة صلبة، خاصة وأنه يضم منحوتات حجرية لم يسبق لفنان أن عالجها، ومضى الفنان يجاهد في تنمية طموحاته من خلال تأملاته في منجزات النحت القديمة، فكانت منحوتات الآشوريين والفراعنة تثير لديه الإعجاب، كذلك النحت الإغريقي والأوروبي فيجد فيها القوَة البارعة على التكوين الرائع والبنية الدقيقة للجسد الإنساني، وقد وجد في أعمال النحاتين الفرنسيين (رودان) و(ديغا) إذ عرفاه على لغة الفن المعاصر، كذلك كان الأمر بالنسبة لأعمال النحات الإنكليزي (هنري مور) التي استحوذت على اهتمامه بمعالجة الجسد الإنساني بتكوينات أفقية تميل إلى التلخيص الشديد والتحويرللأطراف في محاولة لإقامة توازن بين الكتلة والفراغ.
ثقافة بصرية تجمع القديم والحديث، هذا ما اعتمده الفنان في انجاز لوحته، وهذا ما جعله يزاوج بين التشكيل المعاصر والمضمون الإنساني، وقد أنجز مجموعة جديدة من الأعمال النحتية التي تسعى إلى صياغة الجسد الإنساني المتطلع إلى الفضاء برؤية حديثة وعبر حلول تقترب من التجريد من غير أن تستغني عن الملامح الإنسانية.
توالت أعمال الفنان ونضجت، وفي الثاني من آب عام 1976 أقام معرضاَ في صالة الشعب بدمشق، وقد لجأ إلى خامة الحجر ليقدَم الأشكال المستوحاة من الإنسان أو من الطبيعة، ويتضح التوجه الجديد في معالجته للشكل الإنساني، فالمخلوقات أخذت تتنفس، وشرعت أطرافها تمتد في الفضاء، لقد كان الفنان يودَع كل العذابات الإنسانية وضغوط الحياة اليومية، ولعل تمثال المحبة الذي يشكل محوراَ هاماَ في هذا المعرض، وصاغه برؤية تعبيرية معاصرة تجمع بين التكوين الحديث وبين المضمون الإنساني، ورغم استناده إلى الأرض متمثلاَ بالأطراف السفلية القصيرة، والأرداف العريضة القوية، والجذوع النحيلة الممشوقة، والأكتاف الموازية لكتلة الأرداف، والسطوح كانت تتنوَع بين الخشن والأملس الناعم بحيث تضفي على العمل حسَاً درامياَ، وهذا يذكرنا بأعمال النحات الفرنسي لورنز يظهر ذلك في منحوتة “الوداع” و”عروس البحر” حيث قدَم لنا أحلام دافئة.
ثمً جاء معرضه الذي أقيم في حديقة السبيل في مدينة حلب المستند إلى ملامح بشرية ومعالجة تجريدية، وهذا ما نراه في الملحمة الحجرية التي تمثَل القضية الفلسطينية ومعاناة أبناء الأرض المحتلة القابعين في مخيمات البؤس والشقاء.
ومن الملاحظ هنا سمة يمتاز بها الفنان، تتمثل في تعامله مع المواد التي تصوغ عمله، إنه يتصدَى له بحماس ورغبة صادقة، ويخصص له مادة الحجر التي ترضي طموحه في الترويض والإخضاع للقيم الأزلية، ويخرج معه بإحساس المنتصر على مادة صلبة يريد لها الخلود.
أسندت بلدية حلب للفنان مؤقت عمل نصب الشهداء، وخصصت ساحة سعد الله الجابري لاحتضانه، وقد دأب على تنفيذ العمل من الحجر الحلبي، وانتهى العمل في المدة المعهودة، بعد أن استعان الفنان بطلابه الذين كان يدرسهم في مركز الفنون التشكيلية، حافظ على الرؤية الواقعية، وعلى الجسد الإنساني العاري بسطوحه وزواياه الحادة، وامتد العمل إلى أكثر من عشرة أمتار طولية وخمسة أمتار عرضية عند القاعدة، كما عمل الفنان في نصب المجد، عند مدخل منطقة الرستن، حيث أقام في المنطقة، وقد نُفذ العمل الضخم من الرخام المستحضر من إيطاليا، وانتصب العمل بقامته الفارعة وتشكيله الهرمي ورخامه البهي على قاعدة جميلة، أحاطت بها أحواض الورود، في صياغة واقعية مؤكداَ براعة الفنان في الصياغة لمادة عنيدة كثيرة الحساسية، وقد تفرَد هذا العمل بدقته المتناهية ومادته الرخامية، وعكف الفنان بعد ذلك على الإنتاج المتواصل في محترفه، فأنجز مجموعة من الأعمال الرخامية والحجرية، وتوجها بمعرض أقامه في صالة بلاد الشام عام 1989 وضم 30 عملاَ، استخدم الخامات المتنوعة، فكان بعضها يحمل سمات الواقعية المبسطة، وبعضها يحمل ملامح التعبيرية، وقد توزعت بين التكوينات السابحة في الفراغ والجداريات المسطحة، أما مواضيعه فقد استمدها من الجسد الأنثوي الطافح بالجمال، وبعضها استمده من التلخيص الحاذق لأشكال الطيور والحيوانات، وقد كمنت قيمتها في رشاقة الشكل وانسجام العناصر وغنى السطوح التي يتناوب فيها الأملس الناعم بالخشن الدافئ.
وفي مطلع التسعينيات نقل بعض إنتاجه إلى دمشق معرض السيد، فتابعه الجمهور باهتمام وتقدير.
أخذ الفنان يميل إلى التفكير بالقيم التراثية، فانعكس ذلك في إنتاجه الإبداعي في سعي منه لخلق توازن بين الفكرة والتشكيل ضمن صياغة معاصرة اعتمد فيها على مادة البرونز لمعالجة موضوعاته، وقد كساه بالأخضر الفيروزي الذي يشع بالصفاء والوجد، واختار لمنحوتاته حجوماَ صغيرة راحت تتسامى في أشكالها الرشيقة، وتوازنت عناصرها موحية بالبساطة مع صيغ جمالية مكثفة، وأقام لها معرضاَ في صالة بلاد الشام عام 1994 وقد تكون هذه التجربة هي إحدى المحطات الإبداعية في مسيرته، لأنها تشكل منعطفاَ في تفكيره وإنتاجه.
حصل الفنان على ثلاث جوائز تقديرية، ونال الجائزة الأولى لمسابقة بوَابة حلب، عضو نقابة الفنون الجميلة، وعضو اتحاد التشكيلين العرب.
المراجع: طاهر بني ـ فضاءات تشكيلية ـ وزارة الثقافة بدمشق 2002.
طارق الشريف ـ الحياة التشكيلية العدد 7.
نبيه قطاية ـ دليل المعرض عام 1971.