ذاكرات ملونة بسرديات مدونة
غالية خوجة
لا تتوانى حواس الفنون عن التعبير عنما يجول في المشهد الحياتي ومنها الفن التشكيلي والتصويري الذي هبّ ليعبّر عن آلام الناس في هذا الوطن العزيز الغالي، ولم تسكت الألوان عن الحكايات والسرديات المتحركة مع الذاكرة الفردية والجمعية عبْر الزمان انطلاقاً من هذا المكان.
وهذا ما عكسته مدينة حلب المنكوبة من خلال معرض خيري فني في صالة الأسد للفنون ليكون ريع الأعمال لصالح المنكوبين، ومن تلك الأعمال التي بيعت لوحة الأسرة الحلبية المؤلفة من بيت عربي بكافة تفاصيله من درج ودرابزون وفسحة تقف فيها سيدة حلبية بكامل فلكلورها وشخصيتها الجميلة وما تظهره ملامحها من تفاؤل يتناغم مع تفاؤل إضاءة البيت وانعكاس نور الشمس على الشجرة الواقفة إلى يمين الشخصية، وما ترسمه هذه الأشعة على النوافذ وزركشاتها الكلاسيكية المرسومة بإتقان فني تبعاً لزاوية رؤية الفنان الخالدي العاكسة للتراث المكاني بماضيه وأحلامه وأسلوب حياته المميز.
أعمال متفرقة تعرضها “البعث”
وكما هبّ المجتمع السوري من كل شبر في هذا الوطن للتضامن والمساعدة كذلك هبّ الفنانون من كل مكان، بعيداً عن أي معرض، ليعبّروا عن تضامنهم بعد ارتجاج الأرض وجاذبيتها وما أحدثته في الأرواح والنفوس والآثار والبيوت.
تدرجات مستقبلية
ومن هؤلاء الفنانين موفق مخول الذي ترك ازدحام الألم يتشابح مع شخوص اللوحة وتحولات اللحظة وتفاعلها المشترك مع المشهد الدرامي الناتج عن الحرب والكارثة معاً رغم اللون الأسود وتعبيراته إلا أن ما يدعو للتفاؤل والطاقة الإيجابية هو اللون الأصفر المنتشر في الفسحة المصابة وفضائها وحكاياتها إضافة إلى اللون المشع بتدرجات اللون الأبيض وإيحاءاته المستقبلية.
مداران للملامح
بينما تعبّر التشكيلية فاطمة إسبر من خلال “كولاج” يسرد بألوانه السوداء والحمراء والخضراء والبيضاء ظاهر وباطن شخصية المرأة المؤلفة من ثلاثة عناصر معاً، هي المرأة والشجرة والأرض، وما بينها من ذاكرة متفرعة إلى مدارين تمثلهما الشخصية ذاتها لكن بمنطوقين تخبرنا ملامح أولاهما عن وجهها القمري الظاهري، بينما تخبرنا ملامح ثانيتهما عن وجههاالذي فقد أكثر من نصفه لأنه لا يجد مأوى لأحلامه كما تقول إسبر: “أنا المرأة، أملأ الجهات كلها، ولا مأوى لأحلامي”.
توازن لازوردي
وكذلك أنشد التشكيلي بديع جحجاح مولويته في لوحته معتمداً على المباني بدل الدراويش، لتكون بألوانها الحارة والباردة وتدرجاتها مع الأسود والأبيض تتمايل مع تلك اللحظة، لكنها واثقة بلطف السماء وتوازنها اللازوردي الذي يحضن الأرواح بطيفيتها بين العمقين الأرضي والسماوي.
عرائش التفاؤل
إلاّ أن التشكيلية ثناء اللبواني تتخذ من التعبيرية الواقعية حكايتها عن ارتجاف الأرض وانشقاقها وسقوط المباني على الساكنين الذين أصبح منهم ضحايا ومنهم من خرج ومنهم ما زال حياً يبكي من افتقدهم، أو ما زال حياً تحت الأنقاض مثل الطفلة الحاضنة لأختها، والطفلة التي ولدتها أمها الميتة إضافة إلى انبثاق عريشة الياسمين بين هؤلاء الأحياء وأخاديد الأرض مما يجعل الأمل متفائلاً مع السماء.
نبضات جمعية
وضمن السمت ذاته تأتي لوحة التشكيلي هيثم الصايغ المركّز على المحبة كمحور لم تصبه تشققات الجدران وانكسارات الخطوط، بل إن المحبة نمت أكثر مع العائلة والمجتمع رغم الموت والدمار لتظل النبضات الفردية والجمعية تجمعنا بقلبها الواحد.
تأملات متحركة
وهذا ما تسرده لوحة التشكيلي أديب مخزوم من خلال واقعية المباني ورمزية الشخوص المتآلفة مع المفاجأة برجفتها وهدوئها وتأملاتها المتحركة مع الأزرق والأبيض والأصفر كمرآة للحياة واستمرارها رغم انكسار الشجرة بلونها الأسود ووفاة العديد من الناس.
ثبات الطيف
وبدورها، رسمت التشكيلية ريما الزعبي هواجس اللحظة المنكوبة بتجريدية رمزية تداخلت فيها أرواح الحجر مع البشر لتكون القلوب المحور الفاعل بين ألوانها الزرقاء والحمراء المحلقة بعيداً عن ارتدادات الصدمة، المقتربة من مركز اللوحة البارز كشخصية طيفية ثابتة على كرسي داخل أبعاد هذا الاضطراب، تاركة لهذه الشخصية أن تنظر بأعماقها إلى درب السماء المحفوف بالرحمة.
خارطة الكترونية
ومن جهته، اعتمد التشكيلي صالح خضر على زاوية الرؤية العلوية ليرصد حركة الأرض وتقلباتها وأثرها على الناس والمكان الذي يبدو أقرب إلى خارطة الكترونية، مما جعل اللوحة مساحة مفتوحة على الألم العميق للانكسارات الواقعية وأشباهها المحتملة المتجولة بين الشخوص الجمعية ووجودها تحت الأرض وفوقها، كما أن بعض الوجوه التي بلا ملامح تبدو مضاءة بشمس ذاك اليوم وهي متمسكة بالحياة.
هبوب الشهامة
ونلاحظ كيف عبّر التشكيلي غسان السعدي عن التضامن الإنساني العربي والدولي في لوحته التي ارتفع فيها علم سوريتنا المجروحة وآلامها كما ارتفعت أعلام الدول التي هبت بقيمها للمساعدة والمساندة، وكيف احتضنتها الشهامة التي كسرت الحصار الظلامي مؤكدة على ضرورة فك هذا الحصار غير الأخلاقي وغير الإنساني إلى جانب رفع العقوبات أيضاً.
الإرادة الحنون
ولا تبتعد لوحة التشكيلي فريد شنكان عن هذه اللحظة السوداء وما سبقها من آثار الحرب، فتترسب أحزانها في أعماق الأم السورية كما أعماق الوطن وهي تتحد معاً وتحضن الأبناء والأرض متجهة إلى التخلص من الحالة السلبية إلى الطاقة الإيجابية المرموز لها بالضوء وتدرجاته لتبدو الإرادة الحنون متغلبة على المعاناة فينتصر الأبيض على الأسود.
صور سوريالية
تأثرت المعالم الأثرية المعتبرة من التراث العالمي ومنها قلعة حلب والجامع الأموي الكبير وخان الوزير والمتحف والأسواق وغيرها من الصروح، كما تأثرت الأرواح والنفوس بهذا الحضور المباغت لخلخلة هزت الأرض والسكان، كما هزت العالم الذي شاهد وتابع الواقعية التراجيدية السوريالية بمختلف وسائل الإعلام الوطنية بإنسانيته الإيجابية في المساعدة والمساندة والإغاثة والإنقاذ، مما أضاف لمسة على اللمسة الجماعية الفطرية الفسيفسائية التي كانت أجمل لوحة واقعية للتضامن.
أمّا ما انتشر من الصور لهذا المشهد السوريالي فكان معبّراً عن الحدث المأساوي ببرزخيته الشاملة لما ارتجّ في أعماقنا وملامحنا وما زال يرتج مع كل صورة تحكي عن الطفولة وأملها بالنجاة، وألعابها التي ما زالت تنتظر مع الأنقاض، وعن الأهل الضحايا الذين ما زلنا نحتفظ بذكرياتهم وأحلامهم، وعن أهاليهم وهم يتأرجحون كما الجدران التي لن تنساهم رغم ما حدث.
ولكن، ولأن الحياة تظل البعد الموازي للإرادة، فإننا نلاحظ في إحدى الصور كيف انهار أحد جدران البناية إلاّ أن سكانها ظلوا يمارسون حياتهم فيها بحزنها وإصرارها، متمسكين ببيوتهم وذاكرتها وملامحها وإطلالتها المكشوفة على الناس والنهارات، نازحين إلى دواخلهم ومستقبلهم مع حزنهم الذي لا تستوعبه اللحظة بمجمل أحداثها، بينما نرى في البيت المجاور ما تبقّى من الأثاث لساكنين كانوا هنا، وتبدو المرآة في الطابق العلوي محدقة بوجوه العابرين وكأنها تصرخ وتستغيث سائلة عن أهلها الذين كانوا قبل الكارثة، هي تفتقدهم لكنها محتفظة بذاكراتهم وحركاتهم ومنطوقهم وحكاياتهم مع الحرب والحصار والعقوبات والزلزال، المرآة ستظل تروي تلك الذاكرة للجدران والمصورين والعابرين والعالم.