مجلة البعث الأسبوعية

خليل العجيل رواية واحدة لا يمكن أن تختزن ساعة ألم عشناها في الحرب

أمينة عباس

“الحفر في الصخر” هي الجملة التي اختارها عنواناً لحياته ومسيرته ككاتب وإنسان عندما طلبت منه أن يعرّف عن نفسه في حواري معه، وهو الذي عاش جحيم الحرب وكوابيسها: “الحرب هي أسوأ ما حصل، دمّرت كل شيء”.

انطلقت تجربته مع الأدب من بحثه عن الأفق الأوسع في التعبير والكتابة، ومن هواية المطالعة التي نمت عنده مبكراً، وعلى الرغم من أنه يكتب الشعر والقصة إلا أنه ومنذ سنوات يبدو أشد ميلاً للرواية تكفيراً عن (الجريمة) التي ارتكبها خلال دراسته الثانوية حين مزق أول رواية له، فظل يعيش تداعيات الندم وينمو معه حب الرواية وكتابتها، وها هو اليوم يحتفي اليوم بصدور روايته الثالثة “كوابيس الندم” الحاصلة على جائزة توتول للإبداع الروائي عام 2022.

*حدّثنا أكثر عن رواية “كوابيس الندم”.

**هي تتحدث عن فنان تشكيلي بذراع واحدة يعيش في العاصمة، وظروفه بائسة جداً ويحاول النجاح ويضطر للعمل في كثير من الأعمال التي لاتناسبه ولكنه مضطر أن يفعل ذلك في ظروف الحرب الصعبة.

*من يتابع كتاباتك لا بد وأن يتذكر الكاتب اميل سيوران حين قال أنه يكتب تفادياً للانتحار.

**حين أكتب يتشكل رعب التلاشي، ويرتسم ذلك الأنين وجعاً خلّفته الحرب وغذّاه الفقد والتشرد في جغرافيا الحياة أو البقاء حياًفي ظل المواجع التي يعانيها الإنسان اليوم وهو من الفعل السيزيفي والفعل الانتحاري وممارسة واعية لمراودة الموت بلا هوادة.

*متى تتحول الكتابة إلى رفاهية يمارسها الكاتب في أوقات فراغه؟ وهل تسنّى لك أن تفعل ذلك؟

**أكتب عن العزلة والفقد والموت ليس تسليماً وإنما تجسيداً لرعب التلاشي والغياب، وتعبيراً عن إصرار الإنسان اليوم على الحياة وإعادة خلقها كما قالت الناقدة والأديبة فتحية دبش في أحد نصوصي ذات يوم..لم تكن كتابتي رفاهية، فأنا ليس لديّ فراغ لأنني ابن الحياة والعمل والتعب.

* تتفق مع من يقول إن الكتابة هي وليدة المواجع؟

**نعم، فأنا كائن حبريّ،أنزف حبراً، لذلك تطير أفكاري في مهب الريح.. والكاتب يعيش الوجع والألم مرتين، المرة الأولى في الواقع، والثانية عند إعادة تدوينه وتحويلهإلى حالة إبداعية في رواية أو في أي نص أدبي.

*تقول:”أحسد ذاك الروائي الذي استنزف ذاكرته وكتب كل شيء دفعة واحدة وارتاح إلى الأبد” فما الذي يمنعك من فعل ذلك؟

**ما يمنعني أن كتابة رواية واحدة لا يمكن أن تختزن ساعة ألم واحدة عشناها في سنوات الحرب من حرمان وخوف وكوابيس وندم.

*ولدت رواياتك الثلاث عارية تحت المطر وجدران العزلة وكوابيس الندم خلال الحرب، فماذا فعلت الحرب بك ككاتب؟ وما الذي غيّرته فيك؟

**الحرب دمرت كل شيء وحولت حياتنا إلى جحيم وغيّرتني كإنسان أولاً وككاتب ثانياً على عدة مستويات، أهمها المستوى الفكري.

 

*لا يمكن للكاتب أن يخلع عن نفسه سيرته الذاتية في ما يكتب، فأي رواية كنتَ البطل فيها؟

**البطل هو الشخصية المحورية في العمل الأدبي وهو يمثل إحدى الركائز الأساسية في بنية الرواية، وأنا لم أكن بطلاً لأي من رواياتي، وأبطال رواياتي هم من الناس العاديين الذين لا يلتفت إليهم أحد، وكذلك هم من  المبدعين المهمَلين ولا يقدّرهم أحد كبطل روايتي “جدران العزلة” الذي كان مقاتلاً وكاتباً وعاشقاً، وبطل روايتي الثالثة “كوابيس الندم” الفنان التشكيلي، وبطلة روايتي الأولى “عارية تحت المطر” الصحفية التي تعيش أسوأ ظروف في فترة الحرب وكانت مندفعة دائماً ككل الشباب، لكنها تصاب بإحباط وخيبة أمل بعد اعتقالها من قبل إحدى الفصائل الإرهابية وتخلي الجميع عنها، ولا أنكر أن فكرة كتابة سيرتي الذاتية تراودني في بعض الأحيان، ولكن ليس لدي الوقت الكافي حالياً لأفعل ذلك، ولكن ما هو مؤكد أنني سأكتبها في يوم ما.

*في الوقت الذي تحتاج فيه الرواية إلى الكثير من الخيال يبدو أنك أكثر ميلاً فيها إلى الواقعية المباشرة،فمتى تصبح الواقعية نقطة ضعف في الرواية؟

**أكتب الرواية التي تغوص في أعماق الإنسان وجراحه التي لا تُرى بالعين وعن الإنسان بهمومه وآماله وآلامه.. الكتابة لحظة إبداعية وإلهام ويجب أن لا تكون مجرد رصف كلمات، وأتذكر مقولة بوكوفسكي “لا تكن مثلهم بليداً ومملاً ومتبجحاً وأنانياً.. مكتبات العالم تثاءبت حتى النوم بسبب هؤلاء.. لا تضع اسمك معهم”.. وهذا يعني أن هناك فرقاً كبيراً بين الإبداع والكلام العادي.

*تبدو هاوياً في تعاملك مع فن القصة والشعر،في حين يبدو أن مشروعك يتجلى في فن الرواية، فهل هذا صحيح؟

**لا بد من الإشارة إلى أن الشعر في حياتنا مرتبط بالوجدان العربي والمكانة الخاصة التي يتمتع بها في التاريخ العربي، وأغلبنا يكتبه في مرحلة المراهقة والشباب، والسبب ارتباطه بالحب والغزل، إذ نجد فيه أداة للبوح وتفريغ العواطف، وهذا ما حدث معي، ولكن وعلى الرغم من أنني ما زلت أكتب الشعر بشكل شبه يومي إلا أن طريقتي اختلفت في الكتابة، وأصبحتْ نصوصي وجدانية وإنسانية، أما القصة التي كتبتُها وما زلت فأنظر إليها كنتاج جانبي يمكنني أن أقوم به في أي وقت ممكن إن كنتُ متفرغاً.. من هنا أقول أنني لستُ هاوياً في كتابة القصة والشعر، لكنني أميل إلى الرواية أكثر، فهي هدفي الأساسي، مع إيماني أن الرواية بحاجة إلى موهبة وإبداع وثقافة واسعة، وهي تتسع لكثير من الفنون الأخرى وتؤمّن للكاتب مساحة أوسع للتعبير وقول الكثير.. الرواية بحر لا بداية ولا نهاية له، وكتابتها فيها كثير من التعب والألم والصبر، والأهم أن يقدم الكاتب من خلالها ما هو مختلف ولم يسبقه إليه أحد ليضيف جديداً للقارئ وللمكتبة الإنسانية في العالم.

*بين الشكل والمضمون في كتابة الرواية أو الشعر أو القصة ما الذي يشغلك أكثر؟

**المضمون أولاً، لكن دون الانتقاص من قيمة الشكل، فكلاهما يؤدي دوره في إنتاج العمل الفني، والصلة بينهما وثيقة جداً، فهما وجهان لأمر واحد ولا يمكن لأحدهما أن يستغني عن الآخر.

*بما أنك تكتب الشعر والرواية فما إمكانية أن تتسلل لغة الشعر إلى رواياتك؟

**لا تشكل لغة الشعر مشكلةفي الرواية لأنها تتسع لكل الفنون.

*أين يلتقي الروائي والشاعر؟ وكيف يختلفان؟

**يلتقي أن في طبيعة اللغة الإبداعية التي يبدعان فيها، لكنهما يختلفان في علاقتهما بهذه اللغة، فبينما يوجد الشاعر في قلب اللغة الشعرية فإن الروائي يوجد خارجها.

*كتبتَ:”الشعراء لا يتزوجون، لا يموتون مرة واحدة، إنهم ينتظرون ولادة قصيدة في وقت متأخر من الألم”.. فأي ولادة هي الأصعب بالنسبة لك، ولادة القصيدة أم الرواية؟

**ولادة الرواية أصعب لأنها من أصعب الفنون، وإنجازها يُعدّ عملاً شاقاً ومتعباً، وهي تحتاج إلى وقت وإلى الكثير من الخيال وبشكل مضاعف عن باقي الآداب، لذلك لا تكون الرواية الجيدة وليدة إلهام مفاجئ، فالعمل الذي يحقق النجاح يأتي نتيجة تراكم التجربة على الصعيد الحياتي والقدرة على سبر غور الحياة وصقل قدرات الكاتب على صعيد لغة الحوار والسرد والشخصيات.

*أي صفات يجب أن يتمتع بها الروائي برأيك؟

**يجب أن يكون كاتب الرواية قارئاً نهماً وقادراً على الجمع عبر الكتابة الإبداعيةبين التفكير الشخصي وغربلة أفكار الآخرين بحثاً عن فكرة ما تفتح أمامه المسار إلى حقيقة ما يتخيلها.

*كيف أثر وجودك بعيداً عن العاصمة على ما تكتبه؟

**لا شك أن مدينة الحسكة بعيدة جداً عن دمشق، لكنني في الفترة الأخيرة كثير التردد على العاصمة التي كانت مسرحاً لأحداث روايتي “جدران العزلة” وكان البطل فيها يعرفها جيداً كما المقيمين فيها، ومن قرأ الرواية لم يشك للحظة بأن من كتب الرواية هو من مدينة أخرى.

*هل أنصف النقد كتاباتك؟ ولماذا؟

**تكمن مهمة الناقد الأدبي في جعل النص نقياً من الشوائب لأن الناقد يلمس النص بذهنه ويخضعه للتحليل ويقف على تعرجاته ويظهر القمم الجمالية التي ابتدعها المؤلف، مركّزاً على المعنى الخفي لها ومبرزاً تأويله الخاص، وقد يخطر له معنى لم يخطر في ذهن المؤلف، وأرى أن بعض النقاد يركّزون على أسماء معينة ويهملون النصوص الجديدة،وقد تناول نقاد أحترمهم جداً رواياتي، وكنتُ محظوظاً في هذا الجانب، ونُشرت دراسات عنها في صحف ومجلات محلية وعربية.

*من هو مثلك في عالم الروايةعربياً وعالمياً؟

**ما يهمني هو النص أكثر من كاتبه.

*حصلتْ روايتك “جدران العزلة” على جائزة من قبل اتحاد الكتاب العرب، فأي خصوصية لهذه الرواية؟ وما أهمية الجوائز بالنسبة لك؟

**جائزة اتحاد الكتّاب العرب من أهم الجوائز التي حصلت عليها في حياتي لأنها أضافت اسمي كروائي إلى جانب الأسماء الروائية المعروفة، وكنت سعيداً جداً بآراء القراء الإيجابية عن روايتي “جدران العزلة” وهي تقارب مجريات الحرب وتداعياتها المأساوية التي تطيح بأحلام مقاتل يخسر ذراعيه وبيته ويعيش في عزلة  روحية تطبق بأغلالها على روحه الموزعة ما بين مدينته الحسكة وغربته في بيروت وملاذه دمشق، لتبين الرواية أنه يعيش الحرب على جبهات عدة:جبهة الفقر والتشرد، وجبهة الذكريات الموجعة التي تلاحقه، وجبهة الخذلان، وجبهة الأنثى التي لا تسعفه ظروفه القاسية للارتباط بها..هو كاتب ومقاتل بأحلام متهاوية ونزعة عدمية، يكتب نشيده الجنائزي في النزع الأخير بحبر الندم، ويدعو قارئه المتماهي بسرده الأخاذ للتأمل في تفاصيل لوحة الحرب الملعونة التي لم تنته بعد.

*ما هو جديدك اليوم؟

**رواية بنكهة جديدة وهي قيد الكتابة وأكتب فيها عن مدينتي الحزينة والمنزوية في بقعة قصية معتمة وبعيدة، وعن الحياة البائسة فيها، وأتمنى أن تكون مهمة وتجربة مختلفة.

خليل العجيل

مواليد الحسكة 1981 يكتب القصة والرواية والشعر، نال العديد من الجوائز، منها وهو عضو اتحاد الكتاب العرب والاتحاد العربي للثقافة ونادي الصحفيين الشباب ورئيس النادي الإعلامي-سابقاً-في الحسكة.