الرسائل في التراث الأدبي والإنساني
عبادة دعدوش
كلّ يوم نتلقى عشرات الرسائل، الابتسامة رسالة، كلّ فعل طيب نقوم به على الملأ هو رسالة، نحن نتلقى رسائل من الآخرين طوال الوقت.. لغة الجسد تقوم على توجيه رسائل، الأديان السماوية تُسمّى أيضاً بالرسائل السماوية، وهي رسائل من الله، وبإمكان الهدايا أيضاً أن تكون بمثابة رسالة، تُعبِّرُ عن تطلعات ونوايا طيبة، فرغم شُهرة رسالة هارون الرشيد إلى نقفور ملك الروم، إلا أن الأجدر منها بالتباهي به هو هداياه إلى الإمبراطور الفرنسي شارلمان التي تضمّنت رقعة شطرنج وساعة مائية، وهي ابتكار متطور جداً في ذلك العصر لم يعرفه أحد سوى العرب، حيث تقوم تلك الساعة بإسقاط كرات برونزية في وعاء، كرة في كلّ ساعة وينغلق الباب الصغير تلقائياً بعد خروج الكرة، وتلك الهدايا تُجسّد رسالة حضارية، رسالة تثاقف ومودة.
من الجدير بالذكر أن فعل كتابة الرسالة هو من أكثر الأفعال التي يمارسها الناس، حتى أن بعضهم لم يوقفه موت المُرسل إليه عن كتابة رساله، بل ربما موت المرسل إليه هو مناسبة لكتابة رسالة جديدة له في بعض الأحيان، كما حال بعض القصائد التي تتضمن حديثاً إلى شخص مُتوفى كقصيدة الشريف الرضي التي يقول فيها: “أَبكيكِ لَو نَقَعَ الفَليلَ بُكائي.. وَأَقولُ لَو ذَهَبَ المَقالُ بِداءِ..”، فتحمل تلك الرسائل على اختلافها العتب أو الاعتذارات والأسئلة إلى الشخص رغم أنه فارق الحياة.
الآداب عموماً رسائل.. رسائل تنقلها حمامة الورق من زوايا مُهملة عشّش فيها البؤس ولم يلتفت إليها أحد، أو رسائل حول فئات اجتماعية بعينها كالأطفال اليتامى أو المشردين أو كبار السن أو مرضى السرطان أو ضحايا الحروب.. إلخ، فئات لم تستطع القول والتعبير على النحو الأمثل، وبالإمكان الاستشهاد بأيّ مقطع يتحدث عن الطفولة، بلسان حالها أو بلسان طفل، مما يُسمّى بـ “أدب الكوارث” أو “أدب الحرب”، ومثال ذلك قصيدة بدر شاكر السياب بعنوان “الأسلحة والأطفال”.
الرسائل بوصفها وثيقة تاريخية
إن أردنا الحديث عن الرسالة بوصفها وثيقة تاريخية، فبعض الرسائل تشكّل وثيقة إدانة وتُعرّي التناقضات والمُفارقات، كرسالة علي بن عثمان المَريني “ملك من ملوك المغرب” التي كتبها إبان احتلال الإسبان للجزيرة الخضراء جنوب الأندلس عام 1344م، ووجّهها إلى سلطان مصر المملوكي عماد الدين إسماعيل الذي أدان نفسه من فمه وكتب رسالة تكاد تكون من الطرائف الخالدة، استعرض فيها جبروت جيوشه وختمها على نحوٍ غير مُتوقَّع، ونقتطف منها:
“نُفرِّجُ مضائق الحرب بتوالي الكرّات ونعطفُ إليهم الأعنّة، ولخضنا جداول السيوف ودسنا شوك الأسنَّة، وفلقنا الصخرات بالصرخات وأسلنا العبرات بالرعبات، ولكن أين الغاية من هذا المدى المتطاول وأين الثُريّا من يَد المتناول؟! فما لنا غير إمدادكم بجيوش الدعاء الذي نرفعه نحن ورعايانا والتوجّه الصادق الذي تعرفهُ ملائكة القبول من سجايانا”.
وبالعودة إلى الآداب نجد الرسالة بوصفها مصدراً رئيسياً للتواصل والمعلومات عندما تفرض عوامل اجتماعية سلبية مُعيَّنة الفراق على بعض الناس، ومثال ذلك مسرحية شكسبير ذائعة الصيت “روميو وجولييت”، حيث وقعت النهاية التراجيدية الأشهر في تاريخ المسرح لأن رسالة مهمّة أرسلها روميو لم تصل إلى جولييت!