ثقافةصحيفة البعث

قراءة في مجموعة “نداء لصباحات بعيدة” لطلال الغوار

هويدا محمد مصطفى

صدر للكاتب طلال الغوار مجموعته القصصية الصادرة عن دار الينابيع للطباعة والنشر، فحين يمازج الحب الروح فحتماً هو يغسلنا من أتعاب الحياة ومشاقها وهمومها، ولو تمعنا في العنوان “نداء لصباحات بعيدة” لوجدناه لوحة صوفية وطئت الكلمات بصدق مشاعره وجعل منها حكايات وطن لا تنتهي في زمن الحرب وزمن الألم الممزوج بالحب والشوق، فرسم أجزاء المجموعة بشفافية وعفوية لتجد نفسك متلهفاً لقراءة الصفحة التالية فجاء السرد الطافح بعطر بغداد وجدائل الشمس الطفولية بكل مكان، فيأخذنا الكاتب لعالمه وذكرياته ليعود الزمن بنا إلى بيت الطين بيت الدفء والمحبة لعكاز أبيه ونظارته لتجاعيد يديه وصمت مسافر عبر أوراق الليل لمسيرة حافلة من مراحل عمرية عاشها بكل تفاصيلها، ليقول في مقطع من “فتنة الكلمات” الكلمات تظل عارية، وعريها هو من يرسم حدودها، ويحدد فعلها وحركتها، والكتابة هي من تلبسها أثوابها المختلفة، وتجعلها تأخذ أشكالها ودلالاتها، يبدو أن التحول المكاني الراسخ والتقاط الصور بإيقاع عذب المفردات هذا التشكيل المتفرد والمتماسك والمليء بالانفعال العاطفي وصدق المشاعر عبر رؤيته بالعالم الحسي الفعال لنجد ذلك في مقطع بعنوان “انتماء” ليقول الكاتب: وحدها كانت هذه الشجرة تصغي لكلماتي حين أدندن بها ولا أحد يفهمها غيري وسواها، كان أجمل ما أودعتها من أسراري هو سري الكبير والجميل، فقد حفرت على جذعها اسمينا حتى صرت أراهما في هذا الصباح كبرعمين ممتلئين بالحياة.

إن الفكرة لدى الكاتب تبتكر لنفسها وسائل تعبيرية وتتنوع حسب معناها مما يجعلنا نقول: إن طريقة السرد والأحداث مدهشة بعيدة عن الحشو والتشتت، فقد وظف الأحداث بأسلوب سلس عذب وكأنها أجزاء من مقطع موسيقي. وأعطى الكاتب إضافات جديدة في تصوير حقبة زمنية عبر قصصه، فالمجموعة مليئة بالأحداث المتنوعة التي تضم إسقاطات رمزية على الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الذي يعيشه واختيار شخصيات مناسبة من خلال الوصف الدقيق ومن خلال تحريك شخوصه ببراعة ومرونة فائقة مما أضفى الحيوية والصورة الجلية الفنية.

وفي مقطع بعنوان “مريم” يقول الكاتب: كلما تذكرت أيام طفولتي في المدرسة بزغ في رأسي وجه مريم، ليشعل الفتنة في الكلمات، وأستحضر تلك الأيام بلحظات تفصلني عنها عشرات السنين.. نجد هنا اقتناصاً للحظة الزمنية بلغة شاعرية أنيقة يمزج فيها الواقع وتأملات الكون.. هي وحدها مريم نبض القلب. وفي مقطع بعنوان “الأيام جراح في الطرقات” يقول الكاتب: الحياة تسير في الشوارع، لها وجوهها المتعددة لكنها تبدو لك وكأنها بوجه واحد.. الكل يسير في الحشد لكن فيه من هو منسجم مع نفسه وأحلامه ويعد حياته بفرح، وآخر يخفي بعضاً من أحلامه “إنها أحلام سرمدية”، وثمة ثالث يتمظهر بالحلم لكن لا أحلام له.. هي لغة تكاد تكون خاصة، لغة تنطلق من الواقع ومن وعي الكاتب بأدواته الفنية والقدرة على الانغماس في العالم النفسي معتمداً على الرؤيا البصرية التي تجسد المشهد، وهو ما أحدث مفاجأة جميلة للقارئ جعلته يقف للحظة ثم يطلق خياله للتأويل، وهذا مانراه في “الإكسير المغشوش” ليقول: مازالت الأيام مفخخة بالمفاجآت، والحياة كما هي في البدايات، يقودها الخوف والرعب، رغم مرور سنوات على الاحتلال، فما إن تنتقل من شارع إلى آخر حتى ترى حاجزاً أمنياً لا تعرف إن كان حكومياً أم أنه تابع لأحد الأطراف السياسية وإن كان بينهما وشائج قربى. تظل أمام فيض من مشاعر مختلفة ناتج عن هذا التنوع الصوتي المغامر إلى الذات الحاضرة التي توجه المعنى ثم تنال صوراً عاصفة تطاول المستحيل وتحيل الفرح المباغت إلى حزن يكتسح ما قبله.

الكاتب عمد إلى التكثيف رغم بساطة المفردات واستطاع أن يهز الأعماق بحروفه المؤثرة والمكتملة البناء من حيث الفكرة والرسالة المراد تمريرهما، ومن جهة أخرى بدت المعاناة والظلم والسجن والحب للوطن في آن واحد، حين كتب “أحببتك فعرفتك سجناً ومنفى”، وهو الذي وقع في قبضة السياسة ليجد نفسه بين جدران الزنزانة بلا ساعة بلا أحلام بلا ضوء ينتشله من عتمة الروح وألم الظلم، فيقول: أتأبط العتمة وأسافر بعيداً ولا أدري أين جهتي وهي تقرأ لي قصائدها بلا كلمات حفرت حياتي على جدران الزنازين يوماً فيوماً، وأنا أقف أمام حاضر معتم أم أمام مستقبل لا أتبين منه شيئاً ليسافر على أجنحة الطرقات حاملاً بين ذراعيه أشواق بغداد إلى دمشق لتكون محطته الأصدقاء وشوارع الياسمين.

وأخيراً أقول إن الكاتب قدم نفسه من خلال “نداء لصباحات بعيدة” فكانت سيرة ذاتية حافلة بكل ألوان الحياة والواقعية التي ابتكر جماليتها بصياغته الإبداعية والخيالية وترابط الأحداث بذكاء الرؤية اللغوية وأسلوب الطرح المدهش.