خيارات روسيا الإستراتيجية
هيفاء علي
يحاول “الغرب الجماعي” الذي يفتقر إلى استراتيجية واضحة حول الصراع في أوكرانيا أن يتفاعل مع تطور الوضع التكتيكي في أوكرانيا الذي فرضته روسيا، التي تمتلك أوراقاً قوية، ولديها الخيار على الأقل بين خيارين استراتيجيين.
ولمعرفة ما هو هدف روسيا، يكفي الاستماع إلى الخطابات المتتالية للرئيس فلاديمير بوتين، والرئيس الصيني شي جين بينغ، لمعرفة أن الهدف الاستراتيجي الحالي لروسيا، بدعم من بقية العالم خارج الغرب، هو وضع حدّ للهيمنة على العالم من أجل بناء إطار جديد للعلاقات الدولية بقيادة عالم متعدّد الأقطاب.
كان هذا الهدف موجوداً على الأقل منذ عام 2008، بين دول البريكس أو منظمة شنغهاي للتعاون أو الآسيان، ويتمّ تنفيذه تدريجياً من خلال التطوير التدريجي للتبادلات الاقتصادية بين هذه البلدان وبلدان “الجنوب الكبير”، خارج الدولار ونظام سويفت للتبادل بين البنوك.
في تشرين الثاني 2013، لجأت أوكرانيا، التي كانت ترتبط بروسيا باتفاقيات اقتصادية، إلى الاتحاد الأوروبي لتنويع علاقاتها، لكنه اشترط قطع كلّ علاقاتها مع روسيا، لكن أوكرانيا برئاسة فيكتور يانوكوفيتش رفضت هذا الشرط واختارت البقاء في دائرة النفوذ الروسي.
في شباط 2014، نفذت الولايات المتحدة، بقيادة فيكتوريا نولاند، انقلاباً في كييف حمل إلى السلطة الأحزاب النازية الجديدة، بينما أعلنت جمهوريات دونباس ودونيتسك ولوغانسك، انفصالها، ونشأ نزاع مسلح في دونباس.
وبعد عام من القتال، أي في شباط 2015، وقع الطرفان على اتفاقيات مينسك، بحضور فلاديمير بوتين وأنجيلا ميركل وفرانسوا هولاند، ونصّت هذه الاتفاقيات، التي يجب أن يتمّ تطبيقها تحت إشراف منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، على استقلالية جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك.
ورغم ذلك لم يتمّ التقيّد واحترام بنودها، والأسوأ من ذلك، اعتراف أنجيلا ميركل وفرانسوا هولاند مؤخراً بأن تلك الاتفاقية إنما صُمّمت لتوفير الوقت والسماح لأوكرانيا بالتسلح ورفعها إلى مستوى معايير الناتو، ودمج مراكز القيادة الأوكرانية في شبكة الناتو. في الوقت عينه، أثبتت القوانين التي سنّتها سلطات كييف ضد السكان الناطقين بالروسية بأن روح النازية لم تختف، وبعد قرابة ثماني سنوات من قصف دونباس بمدفعية نظام كييف، وسقوط نحو 14000 ضحية مدنية، يحشد جيش كييف القوات على طول خط التماس، حيث يشير تكثيف نيران المدفعية إلى بداية الهجوم. قبل بضعة أشهر، تواصل بوتين مرة أخيرة مع الناتو من أجل تسوية القضايا الأمنية على حدود روسيا من خلال المفاوضات، ولكن دون جدوى.
في 24 شباط 2022، أطلقت روسيا عمليتها العسكرية الخاصة، بعد الاعتراف الرسمي بجمهوريات دونباس، وكان الهدف المعلن هو نزع السلاح من أوكرانيا، وفي حين قدم كلا الجانبين التنازلات اللازمة للتوصل إلى اتفاق، إلا أن الأنغلو أميركيين عملوا على عرقلة العملية، لأنهم بكل بساطة يريدون أن تستمر الحرب، كما يعتقدون، من أجل استنزاف روسيا من خلال الدعم العسكري لأوكرانيا، ولكن ما حدث هو العكس تماماً.
نتيجة للدعم العسكري الغربي اللامتناهي لنظام كييف، تغيّرت الأهداف الاستراتيجية لروسيا، وأصبحت أوكرانيا المنطقة التي يتبلور فيها التحول في النموذج الجيوسياسي، حيث إن نتيجة هذه الحرب ستحدّد ملامح العالم الجديد، حيث أدركت جميع الدول خارج الغرب الجماعي هذا الأمر كما يتضح من دعمها، الصريح أو الضمني، لروسيا من ناحية، وتسريع العلاقات الاقتصادية بين الدول خارج الغرب وإلغاء دولرة الاقتصاد العالمي، من ناحية أخرى. ومنذ بعض الوقت، أدركت “النخب” الأمريكية أن الولايات المتحدة منخرطة في صراع وجودي، لكنها لم تفهم الغرض أو الآليات الحميمة.
لتوضيح ذلك، لا بدّ من التذكير بحالة تخريب خطوط أنابيب الغاز “نورد ستريم”، فقد حدّد بعض المنظرين مثل هالفورد جون ماكيندر، أو زبيغنيو بريجنسكي أن العلاقة بين ألمانيا وروسيا تشكل خطراً، للسيطرة على هارتلاند، وهي الجرف القاري لأوكرانيا وبيلاروسيا وروسيا، من قبل قوى البحر. والهدف الأمريكي المتمثل في منع التقارب بين ألمانيا وروسيا اليوم من خلال تخريب خطوط “نورد ستريم” هو على مستوى المحتوى الحراري، وهو المتغيّر المادي المرتبط بالطاقة في نظام ديناميكي حراري، أقل بكثير مما هو منع التحول الجيوسياسي، لأن هذا الأخير يتعلق بالكوكب كله.
تبلور الحرب الإقليمية الراهنة من الناحية الجغرافية الهدف الاستراتيجي المتمثل في تغيير النموذج الجيوسياسي، وتسريع العملية بشكل ملحوظ. والسؤال المطروح الآن هو التالي: ما هي الخيارات الاستراتيجية الممكنة؟.
حقيقة ثمة خياران، الأول خيار يكون فيه الناقل الرئيسي ذا طبيعة عسكرية، والآخر يكون فيه ذا طبيعة اقتصادية. فيما يخصّ الخيار العسكري، ستكون مسألة قيادة هجوم حاسم لغزو “نوفوروسيا” -الأرض الروسية تاريخياً- وإعادة دمجها في روسيا. من وجهة نظر الفن التشغيلي، لدى الروس جميع الأوراق تقريباً في أيديهم، إذ يمكنهم الهجوم في الشمال، وفي الوسط أو الجنوب، في وقت واحد أو بالتتابع، مما يربك قوات الناتو الأوكرانية على طول الجبهة ويرهقهم. إذا تمّ اختيار هذا الخيار، فمن المرجّح أن يسبقه مناورة مكثفة من الحرب الإلكترونية والحاسوبية، بما في ذلك تشويش الأقمار الصناعية الأمريكية، بمساعدة الصين في هذا الشأن، حيث ستعدّ هذه الحرب الإلكترونية لحملة جوية قصيرة وقوية وموجهة على الجزء الخلفي من جيش الناتو الأوكراني. بعد ذلك، عندما يتعلق الأمر بالمناورات على الأرض، سيكون هناك الكثير للاختيار من بينها.
أما الخيار الاقتصادي فهو يتكوّن على الصعيد العسكري من استمرار ما يجري حالياً، من خلال قضم منهجي للجبهة يهدف إلى الإنهاك التدريجي لرجال ومعدات الناتو والأوكرانيين. إن تمديد العمليات العسكرية من شأنه أن يتسبّب في استمرار انغماس دول الغرب الجماعي في أزمة اقتصادية عن طريق الخنق، وفي الوقت ذاته من شأن تسارع كبير في التجارة مع بلدان “الجنوب العميق” أن يسرّع من إضعاف الدولار في الاقتصاد العالمي، والذي من شأنه أن يصل إلى مركز ثقل القوة الأمريكية، ما سيؤدي بالنتيجة إلى انهيار هرم بونزي الذي يقوم عليه الاقتصاد الأمريكي.
هذا الأمر سيحدث يوماً ما وسيتعيّن على الولايات المتحدة “تسجيل المغادرة”، عندها ستكون العواقب وخيمة على الأمريكيين لدرجة أنه من المحتمل أن تنفجر الولايات المتحدة من الداخل. زيادة على ذلك، هناك تحول سريع وعميق من القارة الأفريقية نحو روسيا والصين، وتبعتها أمريكا اللاتينية، التي كانت بطبيعة الحال أكثر حذراً بسبب عقيدة مونرو وتطبيقها خلال القرن العشرين. هذا الخيار سيكون له فضيلة الحدّ من ملامح الحرب، وأن هذه الحرب ستنتهي، وسيكون هناك جانب منتصر وجانب مهزوم، وسيشهد العالم انهيار الغرب الجماعي وظهور عالم متعدّد الأقطاب.