ثقافةصحيفة البعث

بعضها يثير الشّك.. شاهدات قبور الأدباء وصايا من قصيد وحكم

نجوى صليبه

يأبى بعض الأدباء والشّعراء الرّحيل من دون ترك كلمتهم الأخيرة، كلمة كان لها أثر طيّب أو فاعل أو مميّز في حيواتهم، سواء أكانت هذه الكلمة قصيداً أم حكمةً أو قولاً مأثوراً.. ولأنّهم -كما جميعنا- لا يعرفون متى يحين موعد الرّحيل، يوصون أهلهم أو أحبّتهم فيها أو يستودعونها عند أصدقاء أوفياء على اختلاف مشاربهم ومناهجهم، أمّا من لم يكن لديه كلّ هؤلاء فكان يتركها ظاهرةً على مكتبه لكي يراها أوّل الواصلين.

وتختلف وصايا الأدباء هنا، فالبعض اختار نصّاً خاصّاً فيه كالشّاعر السّوري بدوي الجبل الذي أوصى بأبيات من قصيدته “الشّهيد” لتُكتب على قبره، ويقول فيها:

أطلّ على الدّنيا عزيزاً.. أضمّني إليه ظلام السّجن أم ضمّني القصر

وما حاجتي للنّور النّور كامن بنفسي لا ظلّ عليه ولا ستر

وما حاجتي للكائنات بأسرها وفي نفسي الدّنيا وفي نفسي الدّهر

كذلك أوصى الشّاعر المصري أحمد شوقي بأن يُكتب على قبره بيت من قصيدته “نهج البردة”، يقول فيه:

إنّ جلّ ذنبي عن الغفران لي أمل… في الله يجعلني في خير معتصم

ويبتعد بعض الشّعراء عن الفلسفة والحكمة في وصاياهم، لتكون مدينتهم أو وطنهم كلّ الوصية، كالشّاعر الفلسطيني محمود درويش الذي كُتبت على شاهدة قبره أبيات من قصيدته “على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة”، والشّاعر العراقي محمد مهدي الجواهري الذي طلب أن يُكتب على شاهدة قبره أبيات من قصيدته “دجلة”:

حييتُ سفحك عن بعدٍ فحييني يا دجلة الخير.. يا أمَّ البساتين

حييتُ سفحك ظمآناً ألوذ به  لوذ الحمائم بين الماء والطين

يا دجلة الخير يا نبعاً أفارقه على الكراهة بين الحين والحين

وتثير بعض الوصايا على الشّواهد شكوك نقّاد وأدباء، كتلك التي أوصى فيها أبو العلاء المعرّي، إذ تذكر بحوث -على قلّتها- أنَّ البيت الذي أوصى بكتابته على شاهدة قبره “هذا ما جناه أبي عليّ.. وما جنيت على أحد” والذي يتردّد على كلّ لسان، لا ينسجم مع شخصية المعرّي الشّاعر والنّاقد والفيلسوف، لدرجة أنّ بعضهم أجرى بحوثاً عن موقف المعرّي من الأبوّة والأمومة، ليوضّح مدى انسجامها مع ذلك البيت المثبت على شاهدة قبره والتي يعدّها كثيرون من الأدباء من أشهر الشّواهد في تاريخ الأدب العربي، بينما تشير مراجع أخرى إلى أنّ شمس الدّين بن خَلِّكَان الذي عاش في دمشق ودفن في قاسيونها يذكر أنّ هذه كانت وصية المعرّي.

وعلى خلاف هؤلاء الشّعراء، اختار آخرون أن يُكتب على شواهد قبورهم عبارات تختصر حياتهم -أو هكذا ظنّوا- كالشّاعر الأمريكي “روبرت فروست” الذي كُتب على شاهدة قبره: “كنت في شجار عاشق مع العالم”، والشّاعر والمسرحي الإنكليزي “وليم شكسبير” الذي أوصى بكتابة: “أيّها الصّديق الطّيب.. لا تحفر هذا التّراب المسّور هاهنا.. مبارك من تحفظ هذه الأحجار، وملعون من يحرّك عظامي”، كذلك الشّاعر الإنكليزي “جون كيتس” الذي تهيّأ وتحضّر لتلك اللحظة التي يصبح فيها ذكرى، فأوصى بكتابة الآتي: هذا القبر يحوي كلّ ما كان فانياً.. لشاعر إنكليزي شاب.. تمنّى من على فراش موته.. في مرارة قلبه.. وعند سطوة أعدائه الخبيثة.. أن تُنقش هذه الكلمات على شاهدة قبره: “هنا يرقد من كُتب اسمه على الماء”، ولأنّ الشّيء بالشّيء يذكر، لا بدّ أن نتذكّر العبارة التي كُتبت على شاهدة قبر النّاشط والثّائر الأمريكي “مارتن لوثر كنغ” والتي تعدّ استكمالاً لمسيرته النّضالية، بل ذهب البعض إلى القول إنّها صرخة انتصار: “حرّ أخيراً.. حرّ أخيراً.. الحمد لله أنا حرّ أخيراً”.

ولا تقتصرُ هذه الظّاهرة على الشّعراء وحدهم، بل فعل مثلهم، قبلهم وبعدهم، الفلاسفة كالفيلسوف “إيمانويل” كانت الذي كُتبت على قبره عبارات وردت في كتابه “نقد العقل العمل”، وهي:

شيئان يملآن عقلي بإعجاب ورهبة لا انتهاء لهما ولا أمد

وهو شعور لا يفارقني كلما أمعنتُ التفكير بهما:

السّماء المطرّزة بالنّجوم من فوق رأسي

والقانون الأخلاقي في داخلي

تختلف الكلمات التي أوصى فيها الأدباء قبل رحيلهم، إذ اختار بعضهم نصّوصاً لأدباء آخرين، كالرّوائي الإنكليزي “جوزيف كونراد” الذي كُتب على شاهدة قبره بيتان من قصيدة “الملكة الجنية” لابن بلده الشّاعر “إدموند سبنسر”، هما:

رُقادُ بعد إعياء، وميناءٌ بعد عواصف البحار الهوجاء

راحةٌ بعد عناء، وفناءٌ بعد حياة، يا للهناء!.

وفي ترجمة أخرى يرد: النّوم بعد التّعب.. الميناء بعد البحار العاصفة.. الرّاحة بعد الحرب.. الموت بعد الحياة.. كلّها تبعث الكثير من السّرور.

ولا بدّ لنا هنا من أن نشير إلى أنّ بعض الشّعراء أحبّوا أن يكتبوا على شاهدات قبور زوجاتهم بعضاً من قصيدهم، كإثبات أخير على حبّهم ووفائهم وربّما شعورهم بالذّنب تجاههن، والأمثلة كثيرة لكن نختار منها على سبيل المثال لا الحصر الشّاعر السّوري نزار قبّاني الذي كتب على قبر زوجته بلقيس -توفيت في التّفجير الذي استهدف السّفارة العراقية في بيروت- جزءاً من قصيدته التي حملت اسمها: “بلقيس يا عطراً بذاكرتي.. يا زوجتي.. وحبيبتي.. وقصيدتي.. نامي بحفظ الله أيّتها الجميلة.. فالشّعر بعدك مستحيل. والأنوثة مستحيلة”.

قبور وشاهدات كثيرة بعضها ما يزال صامداً حتّى اليوم وأصبح موقعاً سياحياً، وكأنّما هذا ما قصده الشّاعر اللبناني سعيد عقل بقوله: “أقول الحياة العزم.. حتّى إذا أنا انتهيت.. تولّى القبر عزمي من بعدي”، وبعضها الآخر اندثر بفعل الطّبيعة أو بفعل حاقد متخلّف، وأيّاً يكن فإنّ القبور مع الزّمن تموت أيضاً بالنّسيان كما يقول الرّوائي الجزائري واسيني الأعرج، ولا يبقى لأصحابها سوى الذّكر الطّيب.