سياسات أمريكية متخبّطة في سورية
بسام هاشم
تتخبّط “السياسات” الأمريكية في سورية.. هي بالأحرى سياسة وحيدة، أحادية الجانب، لا تستمدّ قدرتها على الاستمرار إلا من جمودها وتحجّرها وتوحّشها.. سياسة باتت تكرّر نفسها دون رحمة، في لعبة جهنمية أصبحت في الفترة الأخيرة أشبه بالدوران الهذياني حول الذات.. عقوبات تلو عقوبات، ولاشيء سوى عقوبات، وعجز وحقد وفشل باعث على السخرية.. تصريحات ومشاريع قرارات جديدة لقرارات صدرت وستصدر ألف مرة.. اجتماعات وبيانات في الكونغرس والخارجية وفي وسائل الإعلام المهيمنة، لتكرار المكرّر، نوع من انفلاتات العنف والحقد والغطرسة والشعور بالفشل.. وها هو الجنرال ميلي يصل أخيراً إلى الجزيرة السورية المحتلة في إعادة تذكير باهتة بالزيارات التي كان الجنرال المتقاعد، جون ماكين، حريصاً على أدائها، بين فترة وأخرى، في ذروة “مجد” المجموعات التكفيرية المسلّحة.. جنرال ينتظر، بدوره، التقاعد بعد ستة أشهر، ولكنه لن يقطع – كما يبدو- مع زمرة ضباط يعيشون في “شبه مستعمرة” بعيدة، وبات الإبقاء على القوات هناك، بالنسبة لهم، فرصة عمل يجري الإعداد لها، ومصلحة شخصية، وضمانة للمستقبل.. جنرالات يهيّئون لنهاية خدمة مريحة من خلال التشبيك مع لوبيات النفط والسلاح، ولا تعكس توصياتهم، في المحصلة الأخيرة، سوى تكتيكات النهب واللصوصية، بعيداً حتى عن أية اهتمامات وطنية أمريكية حقيقية.
تنزلق إدارة بايدن بشكل خطير في مخططات بقايا المحافظين الأمريكيين الجدد، وتأخذ سياساتها بشأن “قانون قيصر” ومجمل منظومة العقوبات منحى إجرامياً.. على الأرض، تشكّل هذه السياسة حصيلة تواطؤات شخصية بين سلطة الأمر الواقع، ممثلة بالميليشيات الانفصالية المشبعة بروح الارتهان والعمالة “قسد”، وبين جمهرة من أعضاء الكونغرس المجندين لخدمة المصالح الإسرائيلية في الشرق الأوسط، وبين حفنة من مرتزقة الخارج من “حملة الجنسية” السورية، وبعض كبار موظفي الخارجية والدفاع في واشنطن ممّن باتوا يروّجون لإبقاء القوات الأمريكية في سورية كمطلب يرقى إلى مستوى الجدية.
ولكن هؤلاء، وبغض النظر عن تأثير العقوبات، باتوا يطمحون إلى تحقيق ما هو أبعد من التأثيرات الاقتصادية، بأن يجعلوا من سورية بلداً غير قابل للعيش أو السكن.. فمنذ تولّيها مهامها، تطلق إدارة بايدن جولاتٍ متتالية من العقوبات، المجانية وغير المجانية، بمناسبة وبغير مناسبة.. على أمل اختلاق أجواء من الضغوط والإرهاب النفسي، وسط بروباغندا كاذبة ومضللة تريدها مدمّرة معنوياً، حيث تجيّر قواعدها كأبراج رصد ودعم للاعتداءات الإسرائيلية على المرافق المدنية، وتختلق وقائع وهمية للإبقاء على “داعش” كفزاعة لتبرير وجودها غير الشرعي، وتضع مناطق شرقي سورية بين فكّي كماشة على أمل تشكيل جدار عازل بين سورية والعراق أثبتت قوافل الدعم الأخيرة، على الأقل، أن أية قوة – مهما كانت – لن تستطيع فرضه.
واشنطن تلعب لعبة خطرة في سورية، فماذا يعني أن تتمركز قواتها في بيئة معادية بالمطلق، ودون أي موافقة من الحكومة صاحبة العلاقة، ودون إذن رسمي. وما هي حقيقة الدوافع وراء “زيارة” تحت جنح الظلام، وجدت الخارجية الأمريكية نفسها مضطرّة لشرح بعض حيثياتها وملابساتها. وهل تتوقع الإدارة الأمريكية أنها باستيلائها على ثروات سورية الزراعية والنفطية تخدم المصالح الأمنية الأمريكية؟ وهل تدرك إلى أين يمكن أن تؤدّي بها سياساتها الحالية في سورية؟.
يطرح الوضع الراهن في المنطقة معضلاتٍ سياسية وأمنية من الصعب التعامل معها دون سورية، وأي محاولة لتغيير الحقائق على الأرض، وللمعطيات القائمة، تحتاج إلى سورية التي ستبقى رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه، حتى في أشدّ ظروفها قسوة، وهو ما تجسّد، على كل حال، خلال السنوات العشر الماضية. وبعد أكثر من عشر سنوات على الحرب، هناك إجماع على أن سياسة الولايات المتحدة كانت فاشلة، وأنها انتهت إلى الارتهان لمصالح شخصية، من الكونغرس، إلى بعض العواصم الأطلسية، وصولاً إلى الرقة، وأن هذه السياسة لم تجلب أيّ استقرار، ولم تكبح أي نفوذ، وقد أشبعت فشلاً وانعدام جدوى، ولن يكون لها أي مستقبل. ومثل هذه النتائج هي التي دفعت إلى تقليل التوقعات بشأن حدود القوة الأمريكية، وإلى التشكيك في صوابية استمرارها، بل أوقعت حلفاء واشنطن في معضلات سياسية وأمنية لا حلول لها.
حتى إشعار آخر، وفي ظل الفراغ القائم، لا تملك السياسة الأمريكية إلا دعم الميليشيات الإرهابية والانفصالية في المناطق التي تحتلها بهدف إطالة الحرب على سورية، ولكن كل هذا التخبّط لن يغيّر بوصةً واحدة في مواقف سورية.