مجلة البعث الأسبوعية

النفوس تصّدعت كما الجدران.. هل يستطيع الدّعم النفسي ترميم القلوب من آثار الزلزال؟

البعث الأسبوعية – مادلين جليس

بعد مرور شهر على الزلزال، يقف أمجد الطفل الحلبي ذو العشر سنوات متأهباً، يستشعر كل حركة بسيطة من حوله، خائفاً من زلزال آخر يهدم ما تبقى من طفولته.

المنزل الجميل، والحارة “اللطيفة” وأصدقاء المدرسة، وحلب الوادعة، كلها كلمات باتت تبحث عن مكانها في ذكريات أمجد، يتحدّث عنها كمن يتحدث عن ماضٍ بعيد، لكن وبرغم ذك يبتسم ببراءته العذبة.

“سأعود إلى حلب وإلى مدرستي وأصدقائي”، يبتسم مجدداً وهو ينظر لأمه كأنما ينتظر منها أن تؤكد أحلامه.. نعم ستعود.

لكن أحلامه البريئة لم تستطع أن تخفي حالة الهلع والقلق التي تعرض لها أمجد، والتي تحاول إحدى الجمعيات تخليصه منها من خلال جلسات دعم نفسي مستمرة على مدار الأسبوع.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن العلاج النفسي من أولويات الاستجابة لكارثة الزلزال خاصة بعد مشاهد الدمار والموت والإصابات التي رافقت الناجين “جسدياً” والتي ولّدت لديهم شعوراً بعدم الأمان، البند الثاني الأكثر أهمية في هرم ماسلو للاحتياجات، الذي يضع الأمان في الدرجة الثانية من الاحتياجات بعد الحاجات الجسدية “الفيسيولوجية”.

الإسعاف النفسي الأولي

ترى الطبيبة النفسية الدكتورة لانا سعيد أن تعرض الأشخاص لكارثة طبيعية أو زلزال من الطبيعي أن يولّد لديهم شعوراً بالقلق والتوتر والخوف من تكرّر الحدث، لكن ذلك قابل للمعالجة، وبرأيها أن أول خطوة يجب تقديمها لهؤلاء الأشخاص هي تقديم “الإسعاف النفسي الأولي”، إضافة إلى تأمين مبادئ الدعم النفسي وهي الراحة والهدوء، والإصغاء لكل ما يودون قوله، والوقوف على جميع احتياجاتهم.

 

وتضع سعيد تقبّل مشاعر الفاقدين أو المتعرضين لحدث صادم، وتقبّل خوفهم وقلقهم وردود أفعالهم التي قد تكون عنيفة، من أهم أولويات الإسعاف النفسي سواء كان صادراً من الأهل أو من مقدمي الرعاية، الذين لا يشترط أن يكونوا متخصصين.

فمن الممكن برأيها أن يكون مقدم الرعاية قد اتبع دورة علاج نفسي واستطاع امتلاك مهارات التواصل النفسي والروحي وبالتالي يكون قادراً على تقديم الإسعاف النفسي الأولي الذي تحدثنا عنه سابقاً.

وتؤكد أيضاً على أهمية جلسات التوعية بالكارثة أو الحدث الصادم الذي تعرّض له الأشخاص، وتعريفهم بما يجب عليهم القيام به فيما لو تعرضوا لنفس الحدث فغي الأيام القادمة.

وعلى الرغم من أن العلاج النفسي واحد إلا أن لكل عمر له خصوصية، ولكن يبقى الأطفال العنصر الأكثر خصوصية في موضوع العلاج النفسي خاصة فاقدي الرعاية منهم، فهم بحاجة ماسة لربطهم بأهلهم وأحبائهم وعدم تركهم لوحدهم.

من النفسي للجسدي

لا يقتصر الخوف على نوبات الهلع التي تصيب الأفراد المتعرضين للحوادث والزلازل، بل قد يمتد أثره ليؤثر على أجسامهم، وعلى إصابتهم بأمراض قد تكون مزمنة، وهو ما يؤكده الطبيب النفسي رفيف المهنا، موضحاً أن ذاكرة الخوف كثيفة لدى الكثيرين ولذلك فهي قادرة على التأثير على مناعة أجسامهم وعلى قدرتها على العمل بطريقة سوية، وهو ما يؤدي أحياناً إلى اضطرابات جسدية فمثلاُ الاكتئاب يرفع نسبة الإصابة بالسكري والضغط والسرطانات أيضاً.

كما أن نوبات الهلع التي يتعرض لها المرء تلعب دوراً سلبياً لدى الكثيرين من ناحية خوف الشخص من كل شيء حوله، وانكفائه الذاتي لدرجة تمنعه من القيام بأي عمل، مكتفياً بالتقوقع فقط، أو برغبة في السفر وتغيير المكان الذي تعرّض فيه للصدمة.

ويوضح مهنا أن الدرع النفسي الذي يحمله كل فرد بداخله قادر على جعله أقوى إزاء تحمل الصدمات والحوادث، كون هذا الدرع مبني على الخبرة النفسية والروحية التي تجعل الفرد أقوى ضد المشاكل.

وبرأيه أن علاج النوبات بحاجة لتقييم طبي، فكل حالة بدأت تظهر عليها علامات واضحة يجب أن تكون عند طبيب نفسي وهو ما يستطيع تقييم طريقة علاج كل حالة، سواء كان علاجاً سلوكياً أو دوائياً.

هلع مبرر

ولعل الصواب أن نعترف كلنا أن نوبات الهلع التي أصابت كثيرين وخاصة بعد الزلزال الثاني كانت طبيعية كما ترى الأخصائية النفسية بشرى الفرا، فالضرر الكبير الذي لحق بغيرهم من تهدم البيوت وخسارة الأرواح شكّل لديهم حالة رعب وخوف مبررة جداً.

وبينت الفرا أنه وفي هذه الحالة يوصي الاختصاصي النفسي بالانتباه إلى الأعراض وتكرر النوبات، وحتى مع اختفاء السبب الحقيقي، فلابد برأيها من مساعدة اختصاصي أو معالج نفسي بداية للتخفيف والتخلص من تلك الحالة والأعراض المرافقة لها.

وكما كل الاختصاصيين والأطباء والمعالجين النفسيين ترى الأخصائية بشرى الفرا أن لكل شخص على اختلاف عمره مخاوف معينة، ولكن الأطفال ولاسيما من هم في عمر مبكر جداً فهم أكثر استجابة لردود أفعال الأكبر منهم من الأهل أو مقدمي الرعاية أو المحيطين، الذين يعدون المصدر الأول لهؤلاء الأطفال إما بتطوير أعراض الخوف الشديد أو محاولة ضبط الانفعال لديهم.

وتؤكد إمكانية إصابة الأطفال بنوبات هلع كما يصاب الكبار، وهو ما شهده الجميع في حالة الطفلة ذات الـ 12 عاماً التي فقدت حياتها نتيجة الخوف، أو غيرها من الذين تعرضوا لكسور نتيجة الخوف والهرب.

كما  تؤيد الفرّا ما جاءت به الدكتورة لانا سعيد من أهمية تقديم الإسعاف النفسي الأولي PFA، الذي يقوم بشكل أساسي على التهدئة والطمأنية المدروسة للسيطرة على شعور الخوف والقلق والتوتر الجماعي، وإتاحة الفرصة لتقديم أشكال المساعدة الأخرى التي يحتاجها المتضررون.

وتضيف الفرا: بعد فترة من الحادثة وبعد الاستقرار الجزئي للمتضررين يمكن البدء بتقديم خدمات الدعم النفسي الاجتماعي الذي يقوم على تقييم الاحتياجات النفسية والاجتماعية وتقديرها بناء على كل مجموعة وعلى كل فئة عمرية، وبالتالي يمكن بناء خطة أو برنامج يتضمن عدة جلسات جماعية أو فردية ومن خلالها يتم ملاحظة التقدم الذي يبديه الأفراد من التكيف أو استعادة التوازن أو التخلص والتخفيف من بعض المخاوف والشعور بالحزن.

خلط مفاهيم

وعلى الرّغم من توسّع مفهوم “الدعم النفسي” وكثرة العاملين به في السنوات الأخيرة، “سنوات الأزمة” إلا أننا لازلنا حتى اليوم نعاني من نقص الخبراء في هذا المجال، وبحسب الفرا ما زالت كوادرنا  بحاجة للتدريب والتأهيل الجيد والحقيقي، لاسيما من خبراء مختصين أكاديمياً ومهنياً، مشيرة إلى حالة الخلط الشائعة بين ما يسمى الأنشطة الترفيهية (التي تنعكس بشكل ايجابي جزئياً على نفسية الأشخاص) وبين تدخلات الدعم النفسي الاجتماعي (القائمة على تقييم الاحتياجات – وعلى خطط فعلية ومدروسة – ومهارات خاصة بالتواصل وتقديم الدعم).

وتؤكد على أهمية التدريب والتأهيل الجيد على عدة مهارات مثل التواصل بالعمل الإنساني- والدعم النفسي الاجتماعي، والتعامل مع الفئات المختلفة، وآليات الحماية، وغيرها الكثير حتى نستطيع القول أن هناك خدمات دعم نفسي اجتماعي حقيقية.

“صونا” وضحكة الأطفال

وكما يقدّم المعالجون والأخصائيون والأطباء النفسيون معاينات وجلسات دعم نفسي، هناك فرق مجتمعية استطاعت أن تؤدي هذا الدور بقالب مرح لطيف محبّب إلى الأطفال والكبار على حد سواء، ولعل فرقة “صونا” الغنائية الراقصة التي تأسست عام 2016 كانت خير مثال على هذا الدور وعلى الابتسامات التي تولّدت من خلاله.

تتمايل ليلى أتاشيا “المهرج” في فرقة “صونا” تغني وترقص وتزرع الابتسامات والضحكات في كل مكان، وتطرب أذنها لأصوات الأطفال المرحة حولها.

وقررت “صونا” أن تكون سفيرة لابتسامات الأطفال وفرحهم، فبدأت بإقامة حفلات غنائية راقصة للأطفال تضم شخصيات مميزة محببة لهم.

وكما كلّ أهالي حلب، استطلع الخوف الوصول إلى قلوب أعضاء الفرقة، لكن عزمهم على زرع الابتسامة لدى الأطفال كان أقوى من هذا الخوف، ومنه انطلقوا في رحلتهم التي وصلت إلى الكثير من المناطق في حلب.

25 شخصاً من عمر الأربع سنوات، ضمت المهرج، والأرنب، والقطة، والنحلة، والصوص، والساعة، والفراشة، و قوس قزح، والكثير الكثير.

وتروي ليلى أكثر المواقف الصعبة التي مرّت بها أثناء تقديمها لدور المهرج في الفرقة، بعد انتهائها من تقديم إحدى العروض، وكيف اقترب منها الأطفال وشكروها على فرحتهم التي شعروا بها، وتقول: لم أستطع أن أتمالك دموعي عندما اقترب مني أحد الأطفال وقدّم إلي “سندويشة” تعبيراً عن امتنانه للفرح الذي ملأ قلبه، وهذه كانت من أجمل وأصعب اللحظات بالنسبة لي.