بعد تأكد الهزيمة في أوكرانيا.. هل أراد بايدن استبدال كييف بـ”وارسو”؟
البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:
يدرك الرئيس الأمريكي جو بايدن أنه لم يعُد لديه المزيد من الوقت للمناورة فيما يخص الحصول على أيّ نصر سياسي خارجي يساعده في خوض الانتخابات المقبلة، وهو يعلم جيّداً أن الواقع على الأرض بالنسبة إلى الحرب الدائرة الآن بين روسيا من جهة والنظام الأوكراني بالوكالة عن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب من جهة ثانية، يشي بهزيمة نكراء لكييف ومن يقف خلفها، ولا يمكن التعويل مطلقاً على إطالة أمد هذه الحرب، لأن الأرقام تتحدّث عن عجز كبير في أعداد الجيش الأوكراني، فضلاً عن عجز مماثل في تأمين مرتزقة أجانب يحاربون على الجبهة الأوكرانية، واستنفاد مخزونات الأسلحة الغربية في هذه الحرب.
وكان الغرب الجماعي يمنّي النفس بانتصار سريع على روسيا، عبر نظام الحرب الخاطفة Blitzkrieg، على المستوى الاقتصادي أولاً، ثم عسكرياً، الذي يتجنّب من خلاله حرباً طويلة الأمد، ولكنه فشل في تحقيق أهدافه في كلا المجالين، ما أجبره على رفع المخاطر.
وفي أيلول وتشرين الأول الماضيين، عاش الغرب أحلاماً بهزيمة سريعة لروسيا بعد الانسحاب الروسي من منطقة خاركوف وخيرسون، ولكنه فشل في تحقيق ذلك حيث اتضحت شيئاً فشيئاً خسارة أوكرانيا للحرب، وبات الوضع في كييف كئيباً إلى حد كبير.
إدارة بايدن تأكّدت مؤخراً أن أوكرانيا تحوّلت بشكل متزايد إلى ثقب أسود يمتصّ مليارات الدولارات الغربية، بينما تدور أزمة اقتصادية حادة في العالم وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا في مقابل قيام روسيا بتعبئة جزئية واستعدادها للشروع في الهجوم. ومن هنا فإن الفترة الفاصلة بين الحملة الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأت تتقلّص كثيراً، ويتعيّن على بايدن أن يجد مخرجاً سريعاً لهذا المأزق، حيث ستكون هزيمة أوكرانيا في الحرب (ومعها الولايات المتحدة الأمريكية) بالنسبة لبايدن بمنزلة هزيمة في الانتخابات، في الوقت الذي تسحق فيه الصين الولايات المتحدة على الجبهة الاقتصادية، وتقوم ببناء قوّتها العسكرية بسرعة، وهذا يفرض على واشنطن، إغلاق الملفّ الروسي بأسرع ما يمكن والتركيز على الاستعدادات للحرب مع الصين.
فواشنطن تحتاج بشكل عاجل، وفي هذا العام على وجه التحديد، إلى انتصار على موسكو، أو على الأقل منع هزيمة أوكرانيا، الذي يمكن تقديمه على أنه انتصار.
ولكن مع استنفاد الغرب تقريباً ترسانته من الأساليب الآمنة نسبياً في التعامل مع روسيا، والبدء فعلياً بتزويد أوكرانيا بأسلحة فعّالة يمكن أن تهدّد الأمن القومي الروسي، فإن ذلك وحسب العقيدة العسكرية الروسية، يمكن أن يؤدّي إلى مواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا واندلاع حرب نووية، وذلك حسب التحذيرات الروسية المتكرّرة في هذا الشأن، حيث أعلن الكرملين غير مرة أن صبر روسيا يمكن أن ينفد في مواجهة الإصرار الغربي على هزيمتها استراتيجياً بكل الوسائل الممكنة، وخاصة بعد اعتراف كثير من المسؤولين الغربيين بانخراط الغرب بشكل مباشر في الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا.
وقد أظهر الاجتماع الأخير في رامشتاين أن الغرب ليس مستعدّاً بعدُ لمنح كييف صواريخ بعيدة المدى وطائراتٍ غربية، لكنه مع تضاؤل فرص الانتصار يمكن أن يغامر ويرفع مستوى المخاطر ويقدّم هذه الأسلحة إلى كييف لاحقاً، وما يمنعه من ذلك إلى الآن أن واشنطن تحتاج أولاً إلى حل مشكلة الردّ الروسي المحتمل، حيث تريد واشنطن السيطرة على الصراع، من خلال منع الردّ الروسي عليها مباشرة، ولكنها في الوقت ذاته لا يمكنها ضمان ذلك.
ومن هنا كان على واشنطن أن تبحث عن “أحمق مفيد” جديد يقوم مقام أوكرانيا، ويضع رأسه طواعية في مفرمة اللحم ويحارب موسكو دون مشاركة مباشرة من الولايات المتحدة، وهذا الأحمق طبعاً لن يكون سوى بولندا الإمبراطورية الفاشلة التي أوقفت روسيا صعودها، فقد احتلت بولندا أوكرانيا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، حيث كان يحلم البولنديون بدولة “من البحر إلى البحر” (من بحر البلطيق إلى البحر الأسود)، وأعادت الحرب الحالية بين الغرب وروسيا إحياء الطموحات الإمبراطورية للبولنديين.
ولم يجد بايدن بدّاً من اللعب على طموحات السياسيين البولنديين التي استيقظت الآن بالفعل، حيث بدؤوا يتحدّثون عن فرصة “للتخلص من روسيا مرة واحدة وإلى الأبد”، بينما تجري مناقشات حول التوحيد، أو واقعياً استحواذ بولندا على أوكرانيا، أكّدها منح رئيس النظام الأوكراني فلاديمير زيلنسكي امتيازاتٍ لبولندا ومساواته تقريباً بين المواطنين البولنديين والأوكرانيين، بينما أعلن الرئيس البولندي أندريه دودا أنه “لن تكون هناك حدود بين بلدينا”.
وتحاول الدول الغربية من خلال الزيارات شبه اليومية للسياسيين الغربيين إلى كييف أن تغرس في زيلينسكي إحساساً بالثقة في انتصار الغرب الموحّد، وبالتالي أوكرانيا، على روسيا، وذلك لمنع الرجل من التفكير مطلقاً في الانحياز إلى الحل الدبلوماسي للأزمة، والاستمرار في استخدامه خوفاً من انتقام روسي من جميع الدول التي ساهمت في إذكاء هذه الحرب وأظهرت علانية رغبتها في سحق روسيا وهزيمتها استراتيجياً.
ومن هنا يمكن أن نفسّر إصرار بايدن على زيارة وارسو بشكل خاص دون باريس وبرلين، حيث يحاول بايدن أن يمنح بولندا ضماناتٍ في حالة وقوع صدام عسكري مباشر مع موسكو، كما سيُعهد إلى بولندا دور قيادي لـ”الممثل الرئيسي للولايات المتحدة” في شرق أوروبا، وربما في كل أوروبا. فالرجل أراد استخدام دمية أوروبية جديدة في حربه بالوكالة مع روسيا، حتى إذا غرقت روسيا بالفوضى بعد هزيمتها المفترضة، يمكن لبولندا أن تفوز بالسيطرة على جزء من الأراضي الروسية وعلى مكانة القوة الأوروبية الرائدة.
وبايدن طبعاً ينطلق في كل ذلك من اللقب الذي أطلقه تشرشل على بولندا “ضبع أوروبا”، وذلك بعد مشاركة وارسو في هجوم هتلر على تشيكوسلوفاكيا عام 1938، حيث إن هذا الضبع يشعر بالجوع بعد نحو أربعة قرون من خسارة إمبراطوريته في مواجهة الدب الروسي “الملطّخ بدمائه الآن” على خلفية الحرب الدائرة، ويمكن الاستفادة من غريزته هذه عبر المزيد من التحريض في أذنه: “لقد خسرت موسكو بالفعل استراتيجياً وعملياتياً وتكتيكياً.. إلى الأمام! احصل على أكبر قطعة لنفسك!”.
وربّما استفاد بايدن من عامل آخر وهو وقوع منطقة كالينينغراد، الأرض الروسية المعزولة عن روسيا بأراضي بولندا ودول البلطيق، حيث يمكن أن يؤدّي نشوب حرب مباشرة بين بولندا وروسيا، إلى اضطرار روسيا لاقتحام الممر المؤدّي إلى كالينينغراد عبر أراضي دول البلطيق، وهو ما يضمن لبولندا ألا تكون في حالة حرب مع روسيا وحدها، بعد اشتراك 3 دول أخرى على الأقل، وربما أكثر.
فإذا كان الغرب متأكّداً من أن موسكو لن تستخدم الأسلحة النووية، فإن مثل هذه الخطة تبدو جذابة بشكل لا يقاوم، ومضمونة النجاح، أما إذا استخدمت روسيا الأسلحة النووية، فعلى الأرجح لن يكون هذا ضد الولايات المتحدة، ولكن في مكان ما خارج “العالم المتحضّر”، في أوروبا الشرقية، التي لم تعدّها واشنطن وأوروبا الغربية أبداً من مواطني الدرجة الأولى، وفي المحصّلة لن يخسر الغرب شيئاً لأن الحرب لا تزال تدور في الشرق المنبوذ.
ومن هنا، تأتي زيارة بايدن إلى وارسو لإذكاء هذا الشعور لدى البولنديين بإمكانية استعادة إمبراطوريّتهم المفقودة، وفي جميع الأحوال يحاول بايدن ألا يخرج خاسراً من الحرب في أوكرانيا بكل الوسائل، وربّما يكون قد عرض سابقاً على كل من باريس وبرلين مثل هذا الدور، ولكنه واجه معارضة شديدة للاصطدام مع روسيا مباشرة، وبالتالي جاءت زيارته إلى وارسو للقول إنه يستطيع الاستعانة في ذلك بغير هاتين الدولتين، ولا مجال مطلقاً لإيقاف الحرب لأن الهزيمة في أوكرانيا تعني هزيمة استراتيجية للولايات المتحدة، وهذا الأمر لا يمكن تصوّره.