دون استنارة وأية دراية بالوضع على الأرض الولايات المتحدة والناتو يشنون الحروب للتدمير والسرقة.. ليبيا إنموذجاً
البعث الإسبوعية- عناية ناصر
كتب روبرت غيتس، وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، في مذكراته أنه عندما اتُخذ القرار بشن هجوم عسكري على أفغانستان في عام 2001، لم يكن لدى أي شخص في واشنطن أية فكرة حقيقية عن مدى تعقيد الدولة، بما في ذلك الجماعات العرقية المختلفة في أفغانستان، والتنافس بين المناطق الحضرية والريفية في البلاد.
لقد كانت القصة مماثلة مع العراق الذي غزته الولايات المتحدة في ربيع عام 2003 ،بدعم بريطاني كبير. وفي هذا السياق، اعترف غيتس أن بلاده تبدأ الاشتباكات العسكرية، والحروب، بشكل دائم تقريباً دون أية دراية ومعرفة تامة بالوضع على الأرض. واستطرد غيتس قائلاً إن إدارة جورج دبليو بوش (2001-2009) لم تكن على دراية بمدى تدهور العراق بحلول عام 2003، فالبلد، الذي كان فقيراً بالفعل، عانى سنوات من الإجراءات المالية المدمرة التي فرضتها عليه القوى الغربية.
لم يكن خليفة الرئيس بوش، باراك أوباما (2009-2017)، أكثر استنارة ومعرفة فيما يتعلق بدولة ليبيا الواقعة في شمال إفريقيا، والتي بدأت الولايات المتحدة، جنباً إلى جنب مع حلفائها في الناتو، فرنسا وبريطانيا، قصفها في آذار عام 2011. كانت البنية الريفية لليبيا تستند على العديد من المجموعات القبلية، والتي كان فيها الدم والنسب القوتين الموحدتين الرئيسيتين. وعندما تولى معمر القذافي السلطة في ليبيا عام 1969، حاول في البداية الحد من التأثير الكبير لقبائل الأمة، حيث اعتقد القذافي أنه سيكون من الصعب دمجهم بالكامل في ليبيا الجديدة والحديثة التي كان يخطط لبناءها، حيث كان يعتبر أن القبلية أضعفت الولاء للدولة، وأبعدت السلطة عن الحكومة.
تجدر الإشارة إلى أن القذافي نفسه نشأ في قبيلة بدوية في شمال ليبيا، مما سمح له فهم الحياة والعقلية القبلية. و ع محاولة القذافي إبطال سلطة المجتمعات الأصلية، قسّم ليبيا إلى مناطق تقسم الحدود القبلية، وفصل من خلال سياسته تلك قبائل معينة ودمجها مع قبائل أخرى في منطقة مشتركة. ومع ذلك، لم يكن القذافي قادراً على إخضاع السلطة القبلية بالكامل، فمن بين أكثر من 140 قبيلة في ليبيا، كان لدى ما بين 30 إلى 40 منهم درجات متفاوتة من النفوذ السياسي، مع إدراك أنه سيكون من الخطر استبعاد أو عزل السكان الأصليين، لذلك تفاوض القذافي بشكل براغماتي على إقامة تحالفات معهم، وبهذه الطريقة حصل على قدر معين من الولاء من القبائل، أو على الأقل الحياد، حيث لم يشكل زعماء العشائر تهديداً لقيادة القذافي أو لحكومته في طرابلس العاصمة.
مكانة ليبيا في التمية البشرية
تعد ليبيا من بين أكبر دول إفريقيا وتشترك في ساحل طويل مع البحر الأبيض المتوسط، وكان القذافي وحده هو الذي تمكن من الحفاظ على تماسك ليبيا وبنيتها الوطنية الهشة، منذ استقلال الدولة في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي. في ظل حكم القذافي، على الرغم من أن البلاد لم تكن جنة، إلا أن ليبيا تمتعت إلى حد ما بأفضل مستويات المعيشة في إفريقيا. وبحلول عام 2010، أي قبل عام من بدء قصف الناتو لليبيا، وضع تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية ليبيا في قمة فئة التنمية البشرية المرتفعة. وفيما يتعلق بالظروف المعيشية، فقد احتلت ليبيا المرتبة 53 من بين أكثر من 190 دولة في جدول التنمية البشرية.
في عام 2010 ، كانت مستويات المعيشة في ليبيا، بناءً على متوسط العمر المتوقع والدخل السنوي وما إلى ذلك، متفوقة مقارنة بالدول الكبرى مثل البرازيل والصين والهند، حيث كان مستوى المعيشة في ليبيا في ظل حكم القذافي أفضل أيضاً مما كان يعيشه الناس في أماكن مثل بلغاريا وأوكرانيا ومقدونيا وألبانيا.
في منتصف كانون الثاني 2011، اندلعت احتجاجات مسلحة ضد حكومة القذافي في مدن بنغازي ودرنة والبيضاء الليبية، ولم تكن هذه مظاهرات سلمية وأسفرت عن مقتل العشرات، حيث قامت القوات الخاصة الأنغلو-فرنسية بتشجيع العديد من الميليشيات المسلحة، وطلبوا منهم القيام بتأمين السيطرة على منشآت النفط الليبية الواقعة في الأجزاء الشمالية من البلاد.
الإرهابيون في ليبيا
في أوائل عام 2011، أرسل الرجل الثاني في تنظيم القاعدة المتطرف، أيمن الظواهري، إرهابيين قدامى إلى ليبيا لإرساء موطئ قدم في البلا، وكانت كالات الأنباء الغربية وشبكات التلفزيون تصور الميليشيات المناهضة للقذافي على أنهم مدنيون لطيفون، على الرغم من حقيقة أن مقاطع الفيديو أظهرت “المعتدلين” وهم يتجولون مدججين بالسلاح. ومع ذلك، أظهرت المعلومات الاستخباراتية التي جمعتها وكالة المخابرات المركزية أن الميليشيات المسلحة في حد ذاتها لم يكن لديها القوة الكافية للإطاحة بالقذافي، وإلى أنه لا يمكن فعل ذلك إلا بتدخل خارجي يجري على قدم وساق.
في نهاية شباط 2011 تم أسر جنود “كورب كوماندوتروبين” وهي وحدة النخبة من القوات الخاصة من دول الناتو والاتحاد الأوروبي، هولندا، من قبل قوات القذافي في سرت، على الشاطئ الجنوبي لخليج سدرة، في نهاية شباط 2011. هذه القوات الخاصة من الجيش الملكي الهولندي دخلت ليبيا بطائرة هليكوبتر، وفي 24 شباط، وصلت سفينة بريطانية تسمى “أتش أم أس كمبرلاند” إلى ميناء بنغازي، ثاني أكبر مدينة في ليبيا، وخرجت القوات الخاصة البريطانية من السفينة. في الأسابيع التي سبقت بدء قصف الناتو في آذار 2011، كانت القوات الخاصة من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا موجودة على الأراضي الليبية، وكان من بينهم أفراد وكالة المخابرات المركزية وضباط جهاز الاستخبارات البريطاني، وعملاء سريون فرنسيون.
بدء التواطؤ
كتب الصحفي الإيطالي فرانكو بيتشيس أن وكالة الاستخبارات الأجنبية الفرنسية كانت تخطط للثورة في ليبيا منذ خريف عام 2010، وكان أحد زملاء القذافي المقربين مدير جهاز المراسم نوري المسماري، الذي اختلف مع زعيمه، غادر ليبيا في تشرين الأول 2010، وانتقل عن طريق تونس إلى فرنسا. وفي باريس، تحدث المسماري مطولاً مع السلطات الفرنسية عن الوضع في ليبيا، كما التقى بالجيش الفرنسي. وكان من ضمن المتورطين بالمؤامرة ضد القذافي شخصيات معارضة في بنغازي، ففي 23 كانون الأول عام 2010 وصل ثلاثة متمردين ليبيين إلى باريس ، وهم علي أونز المنصوري، وفرج شرانت، وفتحي بوخريس الذين كانوا سيساعدون في تنظيم محاولات الإطاحة بالقذافي، جنباً إلى جنب مع الجيش الفرنسي والمسماري.
أرادت القيادة الفرنسية ورئيسها في ذلك الوقت، نيكولا ساركوزي (2007-2012)، الإطاحة بالقذافي لأسباب مختلفة، وحينها كان القذافي يُظهر الكثير من الاستقلالية وعدم القدرة على التنبؤ بما يرضي الغرب، ففي عام 2009، أجبر الزعيم الليبي شركة الطاقة الفرنسية متعددة الجنسيات، “توتال”، على قبول شروط أدنى تتعلق بصفقات النفط والغاز من ليبيا، حيث تم تخفيض عقد “توتال” لاستكشاف حقول النفط مع الشركة الليبية المملوكة للدولة،” المؤسسة الوطنية للنفط” ، بشكل كبير، و كان على الفرنسيين قبول شروط أقل (30٪) من معدل إنتاج الغاز في ليبيا، بينما في العقود السابقة حازوا على 50٪.
الحرب لأجل النفط
وكانت القضية هي أن شركات الوقود الأحفوري الأمريكية، شيفرون وأوكسيدنتال بتروليوم، أجبرت من قبل حكومة القذافي على قبول صفقات أقل من ليبيا في عام 2009، التي تحتوي على أكبر احتياطيات نفطية في إفريقيا ونوعية بترولها جيدة جداً. وكان للبريطانيين استثمارات أيضاً في ليبيا، بقيمة 1.5 مليار جنيه إسترليني، خاصة في صناعة النفط وحتى قبل إسقاط القذافي، جاء اللورد ستيفن غرين، وزير التجارة والاستثمار البريطاني، إلى طرابلس في أواخر أيلول 2011 على رأس وفد من رجال الأعمال، بمن فيهم مسؤولون من شركة بريتش بتروليوم (بي بي) وشل، وكانوا في ليبيا لإجراء محادثات بشأن الصفقات التجارية مع المجلس الوطني الانتقالي، حكومة الأمر الواقع الجديدة في ليبيا.
وهنا أشار تقرير لصحيفة “الغارديان” نشر في 26 أيلول 2011 إلى أن” الشركات البريطانية ليست وحدها التي تسعى لكسب المال في ليبيا ما بعد القذافي … أفضل الفنادق في طرابلس وبنغازي تعج برجال الأعمال الزائرين وكذلك المستشارين الأمنيين والدبلوماسيين والصحفيين”.
وقد يكون من الجدير بالذكر أن التنظيم الإرهابي، “الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة”، كان له دور مركزي في التمرد ضد القذافي، و كان قائد “الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة” هو أبو يحيى الليبي، وهو عضو بارز في تنظيم “القاعدة”. وكما هو الحال مع الليبي، كان زعيم القاعدة، أسامة بن لادن، يدعم بقوة الميليشيات المسلحة في ليبيا.
في بداية نيسان 2011، أوضح بن لادن رغبته في رؤية الإطاحة بالقذافي، ووصف الاضطرابات بأنها “حدث عظيم ومجيد”. وفي رسالة بتاريخ 28 آذار 2011 ، كتب بن لادن أن المزيد من مقاتلي “القاعدة” كانوا يدخلون ليبيا، بينما كان آخرون يستعدون للتدريب. وفي الجزائر المجاورة، كما كان الحال في سورية، أرادت القوى الغربية والجماعات المتطرفة، وإن لأسباب مختلفة، النتيجة المباشرة نفسها: الإطاحة بحكومات شرعية، ومنتخبة بشكل ديمقراطي..
في أواخر شباط 2011، قال ساركوزي، كما لو كان حاكم ليبيا، في مؤتمر صحفي: “على السيد القذافي الرحيل” . وفي منتصف آذار من نفس العام، ردد الرئيس أوباما ما قاله لنظيره الفرنسي: “لقد فقد القذافي شرعيته ويجب أن يرحل” ، وهي وجهة نظر شاركها خوسيه مانويل باروسو، رئيس المفوضية الأوروبية.
كان أوباما يشجع بانتظام من قبل وزيرة خارجيته، هيلاري كلينتون، على التدخل عسكرياً في ليبيا. وفي 26 شباط 2011، اتهم البيت الأبيض القذافي “بانتهاك مستمر لحقوق الإنسان والتعامل بوحشية مع شعبه”. وكررت الزعيمة الألمانية أنجيلا ميركل هذا الرأي، التي دعمت قبل 8 سنوات الغزو الذي قادته الولايات المتحدة على العراق. لقد أغفل أوباما وميركل الإشارة إلى أن ليبيا، تتمتع بأفضل ظروف معيشية في إفريقيا، بالإضافة إلى أعلى متوسط عمر متوقع في القارة.
و قبلوقت قصير من الهجوم على ليبيا، عندما اقترح الغرب على مجلس الأمن الدولي فرض منطقة حظر طيران فوق ليبيا، فشل سياسيوهم في تقديم أدلة على أن القذافي كان يستخدم طائرات عسكرية ضد المتظاهرين، وبسبب عدم العثور على الأدلة فليس هناك من مبرر لإنشاء منطقة حظر جوي أو تدخل الناتو، فقد كان الأمر ذريعة للسماح للغرب بمهاجمة ليبيا من الجو وإسقاط حكومة القذافي. وفي 30 حزيران 2011، قال نجل القذافي، سيف الإسلام القذافي، في مقابلة أن أحد أخطاء ليبيا الرئيسية كان تأخير شراء الأسلحة من روسيا، حيث كان الناتو يقدم مساعدات مادية للجماعات المتطرفة في ليبيا، مثل “الجماعة الإسلامية الليبية”.
بعد خمسة أشهر من الهجوم، أبحرت سفينة تابعة لحلف شمال الأطلسي إلى الساحل الليبي محملة بالأسلحة، وخرج من السفينة جنود من القيادة المشتركة للعمليات الخاصة الأمريكية وعناصر” كوماندوز في القوات الجوية الخاصة البريطانية”، ووحدات من قيادة القوات الخاصة للجيش الفرنسي. كانت هذه المجموعات قد شكلت خطة للاستيلاء على طرابلس لتسقط المدينة لاحقاً في 28 آب 2011. و بعد أن سقطت طرابلس، لم تكن النهاية بعيدة بالنسبة للقذافي، حيث قتل وبدعم حاسم من الناتو بعد أقل من شهرين في سرت شرق طرابلس.
بعد ما يدعى “التدخل الإنساني” لحلف شمال الأطلسي في ليبيا، انخفض في نهاية عام 2011 ترتيب التنمية البشرية للأمم المتحدة المتعلق بليبيا 11 مرتبة إلى 64، وبحلول عام 2019، انخفض مركز ليبيا إلى 110. يعد هذا منذ العام الأخير من حكم القذافي، أحد أكبر الانخفاضات المسجلة لأي دولة فيما يتعلق بمستويات المعيشة. وبعد الإطاحة بالقذافي، أصبحت ليبيا دولة ممزقة تتقاتلها الفصائل المتناحرة.