مجلة البعث الأسبوعية

قصائد الارتجاج والهوية تزلزل الهمجية

غالية خوجة

ارتجاج الأرض القوي ترك أثره في الكلمات التي اهتزت أيضاً فلمعت صفائح معانيها بألم صابر منكوب، وبكت الشبكة العلائقية في النفوس والنصوص التي صارت مقالات وقصصاً وقصائد خرجتْ بواقعيتها وفنيتها من أعماق الأدباء السوريين والعرب.

الهوية العربية والإنسانية

وكان اتحاد الكتّاب العرب قد خصّص العدد 1806 من دوريته “الأسبوع الأدبي” لـ”مأساة الزلزال في سورية”، موثقاً للحظة التدميرية التي جعلت مدننا منكوبة بفعل العديد من العوامل الأساسية وأهمها الحرب الظلامية الكونية على سورية وآثارها وما تبعها من حصار وعقوبات، وما حايثها والزلزال من انحسار القيم الإنسانية في العالم والتي اختزلها الدكتور محمد الحوراني رئيس اتحاد الكتّاب العرب في افتتاحيته الكاشفة عن “زيف القيم الغربية والليبيرالية، وتواطؤ الإعلام الغربي، الذي يفترض أن يكون حيادياً، مع الأنظمة الغربية التي ترى أن هذه القيم تصحّ للغرب وحده، بعيداً عن الأخلاق والقيم الإنسانية النبيلة وحقوق الإنسان”، مؤكداً: “إن الشعب الأبيالذي قاوم الحرب الإرهابية الصهيونية بأدواتها كافة، لا يمكنه أن يتنازل عن مبادئه ومواقفه”، ملفتاً إلى الدور الإنساني للأشقاء العرب والأصدقاء في دول العالم”، وكيف لبّوا “النداء السوري وكانوا الأقدر على كسر الحصار وتسيير جسور المساعدات الجوية والبرية إلى الشعب السوري”.

كيف تفاعل الشعراء؟

اشتمل العدد مشاركات من الأدباء السوريين والعرب، عاكساً المحور الأساسي للنبض الواحد المصاب في الأعماق، والمتفتّح أبجدية تصف التحولات على هذا الكوكب، وتندغم مع ضوء الروح السورية المشرقة من رمادها الأبدي، ومبادئها الثابتة، وإنسانيتها المتسعة مثل إنسانية السماء الحانية على الشهداء وجرحى الوطن والصامدين والراكضين من كافة المحافظات لإنقاذ الأرواح التي جذبتها طبقات الأرض، لتطل علينا وجوه الأطفال المذعورة، وملامح الضحايا، وقلوب الناس المتزلزلة مع الحدث الرهيب.

وارتأت “البعث الأسبوعية” أن تقرأ قصائد العدد، وكيف تفاعل الشعراء مع هذا الزلزال الذي خرج عن أفق التوقعات، ليكتب سورياليته بغرابة فائقة على أرواحنا وحياتنا.

الجرح جاذبية الشمل

و”من بكاء الغيم” نبدأ مع قصيدة الشاعر منير خلف، وما تجمعه دموع أبياته من تحولات نفسية يوحدها الجرح بفنية بسيطة معبّرة بموسيقية: “رُبّ جرحٍ لمّ شمَ السُحب”، ليأتي الشطر الثاني هائماً في البراري كما معزوفات الناي الحزينة: “ونما فينا بكاء القصب”، لينتقل إلى توصيف الحالة الفسيفسائية المكونة لمجتمعنا بين كردي وتركماني وعربي، موضحاً أن أصل الإنسان آدم وحواء وأن أصل الانتماء للوطن وآلامه، جامعاً في قصيدته عدة عناصر أخرى توحدنا منها رغيف التعب، أمنا الأرض، الهلاك مع الهزة وهي تشكّل الخارطة البيانية بين جبلة وحلب وجنديرس وإدلب وحماة، والاستغاثة بالله التي يختتم بها قصيدته المشهدية:”فلتكن يا ربنا عوناً إذا شيّعتنا جائحاتُ الكُرب”.

الشام أمّ العواصم

ويشاركنا الشاعر عمر عبد الدائم من ليبيا بقصيدته “سلاماً يا شآم”، معبّراً عن لطف الله وبكاء قلبه على “أمّ العواصم”، بتأريخها وحضارتها وشعاعها وما تمرّ به، مبتدئاً بدلالات السلام، متحركاً بين المعارك والغزاة والسهام، متمحوراً حول مركزية أساسية بجناحين أولهما مقاومة سورية وصمودها وانتصارها، وثانيهما اعتبارها مركزاً للشمس والحياة، وهذا ما تتشابك فيه معاني الصور بين البيت الأول والأخير: “إذا أشرقتِ فالدنيا شروقٌ وإنْ أظلمتِ فالدنيا ظلام”.

العراق نبض دمشقي

ومن العراق يطل الشاعر د.حسين القاصد بقصيدتين: “الشام/قلبي دمشقي”، في الأولى نلاحظ الحب والجمال والورد والطمأنينة رغم “الدمع العتيق” المتشكّل مركزاً متفائلاً لضمير واحد لكلّ من العراق وسورية وأنا الشاعر المتأرجحة بين العشق والسؤال وموال النبض المتداخل مع نبض الصورة الكثيفة في بُعدها الأعمق وهو يختزل مرايا الحضارة والأزمنة بسورية رغم المرارات الهائمة الراحلة: “شاخ الكلام ولم تزل هي طفلة اللثغات بالبوح الشفيف بهية، فعلى مآذنها بلابل رقّة، وعلى مبانيها شموخ هوية”.

بينما ترتفع في القصيدة الثانية الدلالة لتشبك بين الحب والحتف والطين وقلب الشاعر: “قلبي دمشقيٌّ ونبضي شهقةٌ، شاميةٌ وهي الأمان وبابهُ”، ثم لتلتقي وتبتهل لله بعدما شاخت الأرض وتوقفت عن الدوران واهتز جوهرها: “رحماكَ بالشام الجريحة/ رحماكَ بالسوري فهو مهذب، مثل الهواء..ولا يطاق مصابه”.

وبالتمني النابض تبدأ قصيدة الشاعر وليد حسين “ألا ليت الحياة” باللا توازن المصاحب للخمرة كدلالة متوازية مع دوخة الأرض والإنسان وتمردات الراهن والطبيعة، والتساوي بين الأيام كسفينة في محيط مجهول والزلزال كسفينة سكرى: “أرى الأيام تمخر في غيابٍ، كزلزال يروّع بيتَ فقر”، واصفاً اختلالات الحدث وآثاره على الضحايا والمكان وماذا كانت الرضيعة ستقول لأمها التي ولدتها من موت: “ألا ليت الحياة تقود أمّاً، إلى جرف تهزّ بحبلٍ سرّي”، متمنياً ألاّ يكون هناك حزن ويتم وألم وحرب ومشاهد تجرف أبطالها المنتمين للشام العز والفخر.

نصْفٌ للنور

وتحاور الشاعرة أنيسة عبود البحر في قصيدتها “زلزال” معاتبة لهوه وحياديته لتنتقل بين المشاهد الحياتية اليومية من موجة حرب مغولية ظلامية إلى موجة زلزالية متحركة في الآن الدلالي ذاته بين الأنا والنحن والسؤال: “يا بحر! أما حزنت على الأطفال، حين مال الدهر على تغريدها، ووجه حاراتنا من القهر سال؟

وتصف في قصيدتها “لحظة” حالتنا التي كنا عليها أثناء الارتجاجة من خلال ضميرها وكيف كانت تلك اللحظة انزلاقاً وجداراً في الآن ذاته، وكيف اضطربت الأمكنة والموجودات والأسماء في حضور النهايات والموت سواء في الخارج أو في البيت أو في ساحة العراك، وكيف ضمت المسافة الزمنية من العمر والأحباب وأغلقت الكتاب، ثم يرتفع الخط البياني للمعنى في قصيدتها “ضاعت مني لغتي”، لتعبّر عن الهول الذي لا تتسع له مخيلة أو ذاكرة أو أبجدية أو زمان: “ضاعت مني لغتي، وعجزت عن لملمة الصورة في مخيلتي، لحظات مريرة أطول من عمر، وأثقل من جبل، وأكبر من ذاكرة تنزف الصور”، ويتمتع هذا المشهد بصورة تكثّف الصور المتحركة بين الأعماق المنزلقة داخلياً وخارجياً، المتضافرة مع عناصر الطبيعة المتحركة على أرض لم تثبت حينها، وأرواح تصطدم بالمجهول، وقلوب “تمشي تحت الركام”، لتجد ذاتها في زاوية أخرى من المشهد مع القمر الرامز إلى بطولة التمزق والأشلاء والانهيارات فوق الأرض وتحتها، داخل الوعي واللا وعي: “قمر ينشقّ إلى نصفين، نصف من نور، ونصف من ظلام”، لتعود معنا إلى ما بعد هذا الكابوس وآثاره المفتوحة على الذاكرة والألم وبقايا البيوت ونبضات الحنين وعنوانها الأخير “زلزال الأمس” الذي تبحث عن كينونته بين الهذيان والخرافة والواقع الذي أصاب الوطن وأهله بين الدمار والفجيعة والأحلام الممزقة والوجوه الغائبة التي تحاول الشاعرة أن تصنع منها وطناً جميلاً.

وردة الابتهال

وتنزح الشاعرة رهام أكرم قنبس إلى الابتهال بعد التساؤل عن الحدث الجلل، وآثاره التي حولت البيوت إلى ركام وخيام، والناسَ إلى شتات نفسي ووجودي وحياتي، متكئة على بيت من “اسق العطاش تكرماً” كاقتباس في قصيدتها “بالشام تبكي وردة”، واصفة الهول، داعية الله أن يحفظ الشام وبلاد العرب.

شاسعة الحزن

ولا تبتعد الشاعرة ليندا إبراهيم في قصيدتها “أنشودة الحداد” عن هذا الامتداد، فتحكي عن “بلاد شاسعة الحزن”، مبتدئة بتحية المساء “عمّي مساء”، لتكون لازمة متكررة أشبه بالسلام على هذه البلاد: “عمّي شوقاً، عمّي بلاداً، عمّي سلاماً، عمّي شمساً، عمّي على قلبي زهرة نرجس على قصف ريحان”، متجهة إلى الكائنات الطبيعية التي تظهر مع سنونوات قلبها الراحلة بلا خريف، عابرة إلى الغزلان العجاف والشحرورة وصمت العصافير.

أمّا الخلفية الأساسية لهذه القصيدة المشهدية فهي رمزيات الروح من خلال الإشارات الصريحة للأسماء المكانية والتراثية والشعرية والدينية بين الحسين وهابيل وقاسيون والنساك ونزار قباني، ودورانها في “محنة العشق الكبرى، محنتك أيتها البلاد”.

الأغنيات عنبر العشب

وتختتم قصيدة “هزي بنا هذا التراب” للشاعر توفيق الأحمد ـ رئيس التحرير، قصائد العدد الخاص بالزلزال، عابرةً من موسيقا بحرها إلى الاهتزازات المتوالية المعاشة في وطننا الحبيب وأهله، بين وصفٍ وتحدٍّ وصورٍ رسمت أبعادها ابتداءً من الهزة الأولى للصحوة: “هزّي جذور الصحوة فينا يا شآم”، وصولاً إلى الهزة الثانية للزمان: “هزّي وفي زمن الزلازل”، ليكون الارتداد واعياً ليس فقط بزلزال الأرض، بل بزلزلة الزمن الأسود وأهله، رغم انحناء الصبر مع الفرسان والخيل، لأن يد الغياهب صادعة للوقت المدمّى، والأغنيات ندية كالعشب، بما في ذلك من دلالة واضحة على الأمل والحياة والانتصار كمرآة حالٍ أساسية مستمرة بعيداً عن ما هو عابر، ولذلك ينتقل الشاعر بصورته إلى تراب الوطن وساكنيه “وما هزته كارثةٌ ولا زلزال”.

وتأتي الهزة الثالثة: “هزّي بنا هذا التراب على ضراوة جرحه، كالصبح ينهض منه والآمالُ”، لتليها استعادة للآلام المتواصلة والباقية بين جفاف ويُتم وأوجاع ودم وحرب وزلزال، ولتشكّل في معناها الموزاي للصور شبكة من العلائق المترابطة إيقاعياً ورمزياً وواقعياً، كونها دلالات تفتح بوابات معانيها على الخفق والنبض المتجذر والممسك والمتمسك بهذا التراب، والباعث للحياة من الركام والمجهول، والمخاطب لضمير جميع الخطُب وارتجاجاتها الزمنية والبشرية المعادية بصورة جمالية مركّبة ثابتها مرتجّ مؤلف من كلمتين: “زلزالٌ يمرّ على أنقاض زلزالٍ يمرّ”، والملفت أن يكون الثابت هو المتحرك من ضمائرنا ووجودنا المتشبث بأرض الوطن: “ونحن هاماتٌ تشقّ طريقها نحو الخلود”.

لكن، ما هي طبيعة هذا الخلود؟

تجيبنا القصيدة بلمحٍ رمزي يساوي بين العبير “كم على خطوِ العبير تكسّرت أغلالُ” والدم الشهيد كقوة تمنح الخلود زمنه الأبدي المرموز له بالمحبة والشهامة والفرسان الذين “داسوا الردى ومضوا”، كما لا تقف الدلالات بجمالياتها عند هذه الدرجة الريخترية من الصمود، بل تنزح إلى عشقها للحياة ليس كأنثى كما هو معتاد، بل كقوة تخيف الخوف والقلق والزمان البغي وصانعيه والأوجاع الفانية مع التبدّد والزوال، واعدة الحياة بحياة متجددة مع المستقبل تشع من خاتمة القصيدة: “سيبقى الوعد بالأمل المُرجّى سيدَ الخطوات، نورٌ، همّةٌ، ونسورُ جيلٍ قادمٍ وجبالُ”.