“الفصل الرابع رؤى مسرحية”.. رصد للحراك المسرحي في سورية
“ارتبطت نشأة المسرح في بلادنا بالجانب الفكري مثلما ارتبطت بالجانب الفني”، هذا ما جاء في الكتاب الصادر عن وزارة الثقافة – الهيئة العامة السورية للكتاب بعنوان “الفصل الرابع رؤى مسرحية” للكاتب جوان جان، وتجربة رائد المسرح السوري والعربي أحمد أبو خليل القباني لم تكن مجرد اجتهاد على صعيد فنون الأداء والموسيقا والغناء والرقص والدراما بل وعلى صعيد المضمون أيضاً، ما يعني أن القباني كان مدركاً للدور الذي ينبغي على المسرح أن يؤديه لجهة التركيز على زيادة كمية الوعي عند الإنسان السوري في ذلك الحين، لذلك كان من الطبيعي أن توجد تيارات داخل المجتمع تقف ضد تجربته وتجهضها، وهي تيارات ذات فكر منغلق ومحدود هدفها السيطرة على عقول الناس واستلابهم فكرياً بما يتيح لها بسط نفوذها على مجمل الحياة الاجتماعية في سورية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومنذ ذلك الوقت كان على المسرح السوري أن يعاني من وطأة سيطرة الفكر الظلامي على مفاصل الحياة اليومية، لذلك وجد المسرحيون السوريون أنفسهم، ومنذ عقد السبعينيات من القرن الفائت أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الانكفاء على الذات والاكتفاء بأعمال مسرحية ترضي الذائقة الفنية للغالبية العظمى من المشاهدين دون الالتفات إلى الجانب الفكري إرضاء للقوى التي تحاول فرض هيمنتها الفكرية، أو الوقوف سداً منيعاً في وجه محاولات التدجين التي مارستها ومازالت تمارسها هذه القوى، ومن هنا ظهرت تجارب مسرحية رائدة على صعيد النص المسرحي تحديداً حاولت أن ترتقي بفكر الإنسان وسلوكه، وتعزز انتماءه إلى المكان بما هو إرث ثقافي وحضاري، واليوم تبدو الحاجة مضاعفة لتكريس هذه التجارب لأن التحديات الماثلة أمامنا أكثر شراسة وأشدّ قدرة على الفتك بما تبقى من إرثنا الحضاري والأخلاقي.
ومما لاشك فيه أن المتابع للحركة المسرحية السورية في السنوات الأخيرة يلمس مدى إقبال المسرحيين على العمل المسرحي إيماناً منهم بأن ما مرّت به بلادهم على مختلف الصعد يتطلب منهم أن يقدموا أقصى ما لديهم من أفكار ورؤى وأشكال فنية خلاقة ترقى إلى ما ينتظره منهم جمهور المسرح الذي نلاحظ كيف يقبل على الأعمال المسرحية عندما تحترم ذائقته الفكرية والفنية، وتحاول أن تكون النبراس الذي يضيء الطريق أمامه نحو آفاق رحبة من الخيال الذي يحقّقه المسرح السوري وهو الذي لم ينقطع تواصله مع جمهوره طوال سنوات الحرب على سورية، وبطبيعة الحال فإن أي فعالية ثقافية أو فكرية أو فنية لا تخلو من مشكلات وأزمات تأتي في مقدمتها المسألة المادية التي تشكل همّاً مزمناً للمسرحي الذي لا يتوانى عن المشاركة في الأعمال المسرحية إذا توفر الحدّ الأدنى من المتطلبات المادية، إضافة إلى ذلك فإن عدم توفر فضاءات مسرحية متعددة لتقديم الأعمال المسرحية يشكل عائقاً حقيقياً أمام التوسع الأفقي في تقديم الأعمال المسرحية، علماً أن مدينة دمشق وحدها تحتوي عشرات صالات العرض غير المستخدمة والتي تحوّل بعضها إلى خرائب ومنها صالات السينما التي يمكن إيجاد الحلول القانونية لامتلاكها والاستفادة من موقعها ومساحتها الكبيرة، مثلما جرى الأمر في مطلع الستينيات عندما تمّ إيجاد حلول قانونية لصالتي الحمراء والقباني اللتين لم تكونا ملك الدولة أساساً.
إن جمهور المسرح اليوم لا يزال وفياً لمسرحه، شرط أن يبقى المسرح أيضاً وفياً لجمهوره، ووفاء المسرح لجمهوره يكون بعدم التعالي عليه أو النظر إليه دون نظرة دونية، وفي الوقت نفسه عدم تقديم ما هو مبتذل شكلاً ومضموناً، والابتذال لا يكون فقط عن طريق طرح الأفكار المستهلكة وأساليب الأداء التي تستجدي الابتسامة أو الدمعة، فقد تكون الأعمال المفرطة في جديتها مبتذلة عندما تعجز عن التواصل مع الجمهور، أما فيما يتعلق بما يقدّم من أعمال مسرحية فيمكن القول إنها تحاول أن تقدم للمتلقي وجبات مسرحية متنوعة بأساليب كتابتها وإخراجها، فالمسرح السوري اليوم يقدم مختلف أنواع الفنون المسرحية سواء في مديرية المسارح والموسيقا أو المعهد العالي للفنون المسرحية أو بعض التجمعات المسرحية التي ما تزال حريصة على إبقاء شعلة المسرح متوهجة ومضيئة.
ضمّ الكتاب ثلاثة فصول، الفصل الأول جاء تحت عنوان “قضايا وآراء” فاختار الكاتب عناوين جاذبة ومنها “المسرح صناعة ثقافية”، و”الملاحظات الإخراجية بين رؤى الكاتب ورؤية المخرج”، وفي “مفهوم المسرح الجوال” تطرق الكاتب جوان جان إلى مسرح موليير الجوال الذي لم يقتصر عليه فقط وإنما ازدهرت هذه الظاهرة أيضاً في سورية في المرحلة التي سبقت عام 1960 “عام تأسيس المسرح القومي”، ومفهوم “التجوال” المسرحي وإن غاب إدارة وتخطيطاً إلا أنه حضر في السنوات الأخيرة عن طريق مبادرات عدة قامت بها مديرية المسارح والموسيقا من خلال إرسال بعض العروض من مسرح دمشق القومي إلى المحافظات، واستقبال عروض من تلك المحافظات في دمشق الذي أفسح المجال واسعاً أمام جمهور المسرح للاطلاع على تجارب فنانين مسرحيين لم يعتد عليهم ولم يسبق له أن اطلع على أعمالهم، وقد وجدت هذه الخطوة صداها عند جمهور المسرح ومتابعيه على أمل أن تستمر وتتطور كي تسهم في تحقيق الهدف الأسمى الذي يسعى إليه الفنانون المسرحيون، ألا وهو تعزيز التواصل مع الجمهور المتعطّش لفن مسرحي نظيف وأصيل.
وجاء الفصل الثاني بعنوان “تجارب ورؤى في المسرح السوري” ومنها “المرأة في المسرح السوري حضوراً وإبداعاً”، حيث شغلت المرأة دوراً ملحوظاً جعلها تتفوق لا على زملائها الرجال –أحياناً- بل على نفسها أيضاً في حالة من حالات التحدي للنفس والمجتمع وأثبتت فيها أنها ليست جزءاً منزوياً من الفعالية الثقافية والفنية بل هي ركن أساسي فيها لها بصمتها التي لا تُمحى وتأثيرها الذي لا يُنكر.
وكتب جان عن مهرجان الشباب المسرحي الخامس الذي عقد في حلب عام 2010 وكان مناسبة للاطلاع على ما وصل إليه حال مسرح الشباب في سورية فنياً وفكرياً، الأمر الذي انعكس على سوية العروض وطبيعتها وطبيعة تلقيها من قبل جمهور وجد نفسه أمام وجبة مسرحية دسمة فيها مختلف أنواع وألوان العرض المسرحي الذي تنوع بتنوع مشارب المخرجين الشباب الذين جهدوا لتقديم أعمال تليق بمستوى وسمعة المهرجان.
وكان الفصل الثالث “نوافذ على المسرح العربي” مثل “المسرح بين سورية ومصر”، و”المسرح العربي ورسالته”، و”المسرحيون العرب والربيع الأسود”، و”المسرح العربي وتحديات الحاضر والمستقبل”، و”المسرح العربي آمال وأحلام”، و”أفكار في الدور التنويري للمسرح العربي”.