الاتفاق السعودي الإيراني.. ليس خبراً عابراً في هذه الظروف
البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:
لو كانت الإدارة الأمريكية هي التي رعت الاتفاق الذي تم بين السعودية وإيران يوم الجمعة الماضي على استئناف العلاقات وفتح السفارات، لكان مثل هذا الأمر مؤشّراً على أن هناك مدّاً أمريكيّاً قويّاً في المنطقة استطاع أن يؤثّر في سياسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إن لم يكن قد أعاد إيران مرّة أخرى إلى الحظيرة الغربية، إن صحّ التعبير، وذلك على اعتبار أنه لا يوجد عادة أيّ تنافر في العلاقات بين واشنطن والرياض، على الأقل حتى وقت قريب.
أما وقد تمّ هذا الاتفاق برعاية صينية، وفي الوقت الذي رفضت فيه الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الوساطة الصينية في الحرب الدائرة الآن بين أوكرانيا بالنيابة عن الغرب الجماعي وروسيا، ومع وجود مؤشّرات كبيرة على قرب انهيار الجيش الأوكراني وإعلان انتصار كامل لروسيا على الغرب الجماعي بكل ما يمثّله هذا الانتصار، من انهيار لأكبر حلف عسكري وسياسي عرفه التاريخ “ناتو”، وأكبر تكتّل اقتصادي عالمي وهو الاتحاد الأوروبي، فإن الأمر هنا يحتاج إلى قراءة المشهد بتأنٍّ كبير.
فالمحادثات السعودية الإيرانية التي كانت تجري بهدوء طوال السنوات الماضية عبر وساطات إقليمية من سلطنة عُمان والعراق، وكان يُكتفى في التعبير عنها بأنها كانت إيجابية ومبشّرة لم يتم الإعلان حقيقة عن نجاحها انطلاقاً من بغداد ومسقط، بل تُرك الأمر إلى عاصمة الشرق الأقصى بكين للإعلان عنه بكل ما يحمل ذلك من دلالات، وخاصة أن العالم يمرّ الآن بمرحلة مفصلية، عُبّر عنها بأنها مخاض نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب تسعى إليه كل من روسيا والصين بقوّة، بعد فشل جميع المحاولات الجدّية من كلا البلدين في الوصول إلى هذا العالم عن طريق الحوار مع الغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تزال ترفض إلى الآن الاعتراف بضرورة نشوء نظام عالمي جديد يتناسب مع الوضع الحقيقي للقوى الموجودة في العالم، وتتكافأ فيه فرص جميع الدول في العيش بسلام ورفاه بعيداً عن استغلال واحتكار القطب الواحد الذي أثبت فشله في قيادة العالم نحو الحرية والتسامح والعدالة.
ومن هنا فإن إعلان الاتفاق بين الطرفين السعودي والإيراني ليس خبراً عابراً في هذه الظروف الدولية الدقيقة، بل هو مؤشّر قويّ على ولادة عالم جديد بدأت ملامحه في الظهور، ليس لأن البلدين يحملان مؤهّلاتٍ سياسية في المنطقة، بل لأن العالم بالفعل بدأ يتغيّر باتجاه الانفتاح الاقتصادي الذي يعمّ بالنفع على الجميع، فهذان البلدان سيصبحان محطتين مهمّتين في طريق الحرير الصيني الذي سيحقّق التنمية المستدامة لجميع الدول التي يمرّ عبرها، ومن ضمنها السعودية وإيران، وهذا يقتضي طبعاً الابتعاد عن الحروب والنزاعات والدخول في تشبيك اقتصادي يساعد على تحقيق رفاهية شعوب المنطقة، بعيداً عن الهيمنة الغربية على ثرواتها ومقدّراتها.
فالاتفاق بالمجمل يمكن أن تُطلق عليه صفة التاريخي، لأنه تمكّن من كسر حاجز كبير من عدم الثقة والخوف بين دول المنطقة بأكملها، حيث من الممكن أن يقود مثل هذا الاتفاق إلى انضمام مجموعة من دول المنطقة إليه، ويصبح أنموذجاً لتكتّل اقتصادي كبير بين دولها يستطيع أن يحقّق لها ثقلاً وازناً في عالم جديد متعدّد الأقطاب يتيح للجميع التمتّع بظروف عيش أفضل بعيداً عن الصراعات والنزاعات التي لا تجلب سوى الدمار والخراب.
ومن هنا كان أوّل المتضرّرين من هذا الاتفاق الولايات المتحدة الأمريكية التي شعرت أن هذا الاتفاق يمثّل مسماراً كبيراً في نعش القطبية الواحدة التي كانت تتمتع بها وتسيطر من خلالها على جميع دول العالم وتنشر الخراب والدمار فيها لمنعها من التقدّم والتحرّر، وبالتالي الاستغناء عن الرعاية الأمريكية المأجورة لأيّ رغبة في التطوّر الشكلي وليس الحقيقي، وهذا الأمر طبعاً يسحب من يدها القدرة على إذكاء الصراعات بين الطرفين وتقسيم المنطقة إلى تحالفات عسكرية وسياسية واقتصادية متناحرة تؤمّن بالمحصّلة بقاء الولايات المتحدة القطب الأوحد في هذا العالم.
وثاني المتضرّرين طبعاً هو الكيان الصهيوني الذي كان يلعب على وتر التناقضات الموجودة في المنطقة، وليس من مصلحته طبعاً خروج دول المنطقة من فكرة استعداء إيران والعودة إلى شبكة العلاقات الحقيقية الموجودة والثابتة، وبالتالي العودة إلى النظر إلى الكيان الصهيوني على أنه كيانٌ طارئ وعدوّ حقيقي، وخاصة مع الوضع الهش الذي يعيشه هذا الكيان حالياً بعد الاضطرابات والمظاهرات اليومية في الكيان على خلفية الأمراض المستعصية في المجتمع من التمييز العنصري والطبقي وعدم التمكّن من تحقيق الانخراط الكامل للكيان في محيطه كما كان يحلم، لأنه لا يمتلك الروابط الثقافية والدينية والعرقية والقومية والتاريخية التي تجمع بين دول الإقليم.
وفي هذا الإطار، حذّرت تقارير إعلامية وأمنية إسرائيلية من نتائج الاتفاق السعودي الإيراني، معتبرة أنه سيفتح المجال لعلاقات أوسع بين إيران ودول إقليمية كبرى بينها مصر، كما أنه يبدّد الحلم الإسرائيلي في إقامة تحالف عربي دولي ضد إيران، مشيرة إلى صعود قوة الصين في المنطقة على حساب الولايات المتحدة الأمريكية، حيث إن هذه الخطوة الدراماتيكية سترسم خريطة جديدة للعلاقات في الشرق الأوسط وخارجه، وبالتالي سيكون ذلك دليلاً كبيراً على انحسار النفوذ الأمريكي في الشرق على حساب زيادة النفوذ الصيني، الأمر الذي قد يزيد من عزلة الكيان الصهيوني في محيطه، وهذا طبعاً سيؤدّي بالمحصّلة إلى الاعتقاد بأن الخراب قادم بالفعل إلى هذا الكيان، وأن المنطقة ستلفظه كما لفظت غيره من أشكال الاستعمار القديم.
فالتطوّر الخطير الذي تحدّث عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت، يكمن حقيقة في انتصار سياسيّ لإيران مقابل فشلٍ مدوٍّ وإهمال وضعف من حكومة بنيامين نتنياهو التي تغرق حالياً في تدمير ذاتي ممنهج.
في العموم، لا يمكن النظر إلى الاتفاق السعودي الإيراني من زاوية ضيّقة، وإنّما هو اتفاق يمهّد لمرحلة جديدة من التفاهمات سيتم بموجبها الإعلان عن ولادة عالم جديد متعدّد الأقطاب، ولذلك ليس غريباً أن نشاهد اجتماع عدد من الدول المتنافرة حول العالم سعياً إلى التفلّت من القبضة الأمريكية، لتشكيل تكتّلاتٍ جديدة كلّها تصبّ في خدمة النظام العالمي الجديد الذي صار على وشك الإعلان عنه، ولكن لابدّ من حسم بعض الأمور قبل الوصول إلى ذلك، ومنها طبعاً انحسار النفوذ الأمريكي من كثير من المناطق في العالم وحلول قوى أخرى هي الأقدر على التجاوب مع حاجات العالم في الحرية والتسامح والعدالة والتنمية.