“عذابات الأيام” ذاكرة تختزن الوجع
سلوى عباس
الكتابة في أحد جوانبها تعبير عن غبن حاصل للبشر في الحياة، والرواية تكشفه دون أن تعوّض عنه، لكنها تساعد الناس على فهم واقعهم، وتمنحهم رؤية أوسع من خلال حيوات الآخرين، إنها تجعلهم يرون حياتهم من الخارج والداخل، وتقدم لهم مبررات الاحتجاج والفعل!! وهذا مانقرأه في رواية “عذابات الأيام” للأديب محمد علي أسبر الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب والتي تتناول تاريخ سورية الممتد منذ فترة الاحتلال العثماني مروراً بالانتداب الفرنسي وصولاً إلى الحرب الهمجية على سورية والتي لازالت مستمرة حتى الآن، إذ يوثق الكاتب عبر أحداث الرواية بطولات أبناء الطبقة الفقيرة الذين خرجوا في كل المراحل التاريخية التي عاشوها ليدافعوا عن وطنهم وشخصيتهم وانتمائهم لإنسانيتهم بهذه الشجاعة والبسالة، وهذا الموت المرير الذي صعقهم وأذهلهم ولم يكونوا يتصورونه أبداً، هذه التضحيات التي حررت الوطن وفتحت نوافذه للشمس والحرية والكبرياء.
وإذا بدأنا في قراءتنا للرواية من الغلاف تستوقفنا بداية لوحة للفنان التشكيلي عبد العزيز محمد التي تمثل صراعات الإنسان الوجودية منذ بدء الخليقة وحتى الآن، وقد ساعد في إظهار تفاصيل اللوحة ومكنوناتها الفضاء المتماوج الألوان بين الرمادي والأسود والترابي، ما يوحي بالتكامل الفني بين الشكل والمضمون، كما نتوقف عند حالات إنسانية مليئة بالهم الفردي والجماعي، آهات وزفرات صادقة، ومشاعر فياضة بالألم والحب معاً، فينمو الألم في داخلنا كشجرة ياسمين بيضاء تسافر في عروق المساءات المظلمة، ورغم كل شيء، نتأبط اغترابنا وحزننا ونمضي مفتشين عن مساحة من سلام نركن إليها، إذ يوقظ الكاتب فينا فتيل الحزن فيعطر الحروف والصفحات وأروقة الذاكرة والوجدان. إنها رواية أشبه بلوحة كونية فريدة الألوان والخطوط تحملنا معها فوق حدود الغيم والتأملات والمدى، وتمثل الواقع بكل وجوهه، كما تحمل الكثير من الشجن والأسى الموشى بأطياف الحب الذي يمثل الوجه الآخر للوطن، بل هو الوطن ذاته نعيش فيه ويعيش فينا، وقد كان للأسلوب الرشيق المشغول بلغة شفافة وقوية ومعبرة دوره الكبير في رسم نهاية هذه الرواية.
إنها رواية إنسانية بامتياز، تحاور الإنسان في زمن نحتاج فيه إلى الحوار والعقل والمشاعر معاً، وتظهر بوضوح مهارة الكاتب في سرد حكايات شخصياته، وتحكّمه في أسلوب طرح القضايا التي تناولها فيها، حيث تناوب الأسلوب عنده مابين السرد والوصف، يضاف إليهما الأسلوب الحواري المتكىء على رؤية فلسفية عميقة للأحداث في بعض الحالات، فانطلق أديبنا في تفاصيل روايته نحو مناطق غائرة في الجرح الإنساني وفي تاريخ الذات السورية المثقلة بأوجاعها الإنسانية والتاريخية، واستطاع مع هذه التداعيات القفز باتجاه تنمية الإحساس بالمسؤولية عند أبناء جيله الذين عايشوا هذه الأحداث والأجيال اللاحقة منبهاً إلى دور الكلمة التي تستدعي العلاقة بها حماية الثقافة، والأخلاق، ومحبة الوطن، ورمى بأوراقه التاريخية في نسيج لغوي على خلفية تبادل فيها عمليتي الظهور والاختباء وراء الوصول إلى الحقيقة، وهي الفكرة الأولى والأخيرة خلف تداعياته.
لقد عبّر الكاتب في “عذابات الأيام” عن موقفه من الحالات النفسية والمجتمعية التي يعاني منها شخوصه، إذ مثّل رصده لهذه الحالات صرخة ضد الظلم والقسوة التي يعيشونها، كما برع في تحريك شخوصه بحرفية ومرونة، ويبدو واضحاً موقفه الموضوعي منها، وانتصاره للحرية والعدالة الإنسانية عبر إجادته في تشكيل تلك الشخصيات بسلبياتها وإيجابياتها، إذ نراه من خلال حكاياتهم لا يسعى بشكل مباشر للإدهاش ولا للتشويق بل يكتب ذاته كما هي عبر هؤلاء الشخوص، متجاوزاً صعوبة الكتابة عن العام دون أن يفقد خصوصية رؤيته لبطولات تلك الشخصيات التي تحضر حتى في الشأن العام، مؤكداً في تناوله للقضايا الإنسانية والحياتية على أن الكاتب ضمير عصره وأدبه مرآة الزمن.
ينتمي الكاتب محمد علي إسبر إلى أسرة إبداعية مثقفة فهو شقيق الشاعر أدونيس والفنانة التشكيلية فاطمة إسبر وأبناؤه من رواد الأدب بكل فنونه، وفي رصيده أربعة مؤلفات هي: “الشامل”: معجم في علوم اللغة العربية ومصطلحاتها، ومعجم “الخليل” في علم العروض، ورواية “شجرة الورد” وديوان “الحب العربي”- مختارات، وآخر إنتاجاته الرواية التي بين أيدينا.