مجلة البعث الأسبوعية

القفص الذهبي لا يصلح للمبدعين..  والعباقرة لا يتزوجون ولا ينجبون

أمينة عباس

ما زالت علاقة المبدع بالزواج مكللة بالريبة، فعلى الرغم من وجود زيجات ناجحة بين المبدعين دحضوا بها نظرية “عدم الزواج شرط للإبداع والعبقرية” إلا أن غالبيتهم يشيرون إلى أن الزواج مؤسسة تشل الإبداع، حيث يرى الأنتروبولوجي الفرنسي روبرت مونتاني في الزواج التقليدي نوعاً من أنواع الإعاقة التي تشل الحياة والإبداع.. وفي حال وقع الزواج اقترحَ للتخفيف من الخسائر وتوفير الاستقلالية أن يحتفظ الكاتب لنفسه بغرفة خلفية يمتلكها بكاملها، ويمارس فيها جرأته وحريته وعزلته، في حين يؤكد الفيلسوف الألماني فيردريكنيتشه أنّ الفيلسوف الحقيقي يرفض الزواج ويتهرب منه بكل هلع ورعب لأن الزواج يقف في طريقه ويمنعه من الوصول إلى قمة الفكر والإبداع: “فمن هو الفيلسوف الكبير الذي كان متزوجاً؟ كلهم كانوا عزاباً من هيراقليطس إلى أفلاطون وديكارت وسبينوزا ولايبنتز وشوبنهاور” ويتفق مع نيتشه كثيرون.. ولذا سادت عبارة “العباقرة لا يتزوجون ولا ينجبون وإنما يتفرغون كلياً لإنجاب شيء واحد فقط هو مؤلفاتهم الفلسفية أو روائعهم الأدبية”.

خارج القفص الذهبي

كثيرون من أهل الأدب والفن والفكر أمضوا حياتهم دون الدخول في القفص الذهبي.. منهم ستندال، بلزاك، فلوبير، بودلير، رامبو، رينيه شار، بيتهوفين، موتسارت، آدم سميث، إيميلي ديكنسون، ستيوارت ميل، فدوى طوقان، والأديب المصري عبّاس محمود العقّاد الذي بيّن في أحد حواراته (وهو شاعر ومفكر وسياسي أمضى حياتهدون زواج) ويقول أنه لم يتزوج ولا يمكنه أن يتزوج لأن الزواج يفقده جزءاً من حريته وهو رجل يحب أن يحتفظ بحريته كاملة دون التقيد بمسؤوليات الزوجة والأبناء، إضافةً إلى أنه يؤمن أن الفنهو الضرّة، والجمع بينه وبين الزواج من أصعب الأمور، مع اعترافه أن بعض الأدباء تزوجوا وظلوا مع ذلك يشتغلون بالأدب، أما الأديب اللبناني جبران خليل جبران فعلى الرغم من علاقاته الكثيرة مع النساء وأشهرهن مي زيادة إلا أنه لم يتزوج ويقال أنه لم يسعَ إلى لقاء زيادة طوال 20 عاماً، حيث اقتصرت علاقتهما على الرسائل المتبادلة فقط، وما ينطبق عليه يعمَّم على صديقه الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة الذي توفي عازباً، في الوقت الذي لم يثبت فيه أيضاً أن ليوناردو دافنشي قد تزوج، وقد جاء في كتاب “منهج البحث التاريخي” للدكتور حسن عثمان أنه لم يعشق النساء قط طوال حياته، وقضى حياة العزوبية باختياره كما فعل زميله مايكل آنجلو الذي عبّر عن كرهه للنساء وهو بذلك يتفق مع  شوبنهاور في رأيه بالمرأة، وقد كانت فلسفته الاجتماعية تؤكد أن العزلة هي طريق السُّمو الأخلاقي وأن الانفراد بالذات هو طريق السعادة حيث أن المرء لا يكون على طبيعته إلا عندما يكون وحده، أما الكاتبة والمفكرة سايمون دي بوفوار التي طلبها بول سارتر للزواج فقد اختارت ألا تتزوج أبداً منه مع أنها ارتبطت بعلاقة معه مدى الحياة، وللحفاظ على صلابة العلاقة وتوهج الحب اعتمدا ميثاقاً بينهما “لا للإقامة في منزل واحد إلا بشكل متقطع وعند الضرورة الملحة، لا لإنجاب الأطفال” لتتفرغ للسفر والكتابة والعمل السياسي، وهي التي اشتهرت بكتابها “الجنس الآخر” الذي يدور حول اضطهاد المرأة وقد اعتبر بمثابة نص تأسيسي للنسوية المعاصرة.

تزوجوا.. ولكن!

كتبت الكاتبة ليسا مورانته عن زوجها الكاتب ألبرتو مورافيا لإحدى صديقاتها عام 1945(أي بعد سنوات أربع على ارتباطها الرسمي به): “الزواج من أدباء ليس إلا آفة” واصفةً الزوج بأنه مزيج من أخيل وهاملت وأنه يسافر إلى باريس من أجل انتصاراته الشخصية.. وتقول: “أما أنا؟ إني أعاني من وحدة رهيبة، إني أنهار” كما أنها لم تخفِ غيرتها من نجاحاته، فتكتب في رسالة أخرى: “كم أرغب في أن أكون قد كتبتُ كل ما كتبتَه أنت، كما أنني أرغب رغبة شديدة في أن أكون أنت” وفي إحدى رسائلها له بعد سنتين من تعارفهما خاطبته قائلةً: “أنت مثل الأطفال، تجري وراء كل الأشياء، قبل أن تعود إلى مكانك وتهرب من جديد.. كل أولئك النساء لسن سوى لا شيء.. لا أحد يحبك، والأكيد أن أحداً لن يحبك بالفعل” أما صوفيا أندرييفنا زوجة ليف تولستوي صاحب كتاب “الحرب والسلام ” فقد كتبت: “الزواج من العبقري لا يتطلب كثيراً من العقل، بل كثيراً من الحب” وهي التي أصابها الهلع والصدمة حين قرأت خلسةً في مذكراته ما وصفها به “هي تارةً حمقاء، وتارةً شريرة تضيق عليَّ الخناق، وتعمل على عزلي عن أصدقائي كافة، وصولاً إلى وأد طاقتي الإبداعية” وقد قدمت أندرييفنا في المذكرات التي أصدرتها بعد رحيل تولستوي بسنوات قليلة صورةً كاملة عن علاقتها الصعبة وما رافق حياتهما المشتركة من مسرات ومشقات معفية نفسها من أية مسؤولية عما لحق بزواجها من عطب مرددة: “إلهي، ساعدني على تحمل هذا الألم، إذ لا ينفك تولستوي يقدم نفسه للأجيال القادمة بصفته شهيداً، وبصفتي امرأته الخاطئة” كما أن الكاتب اليوناني صاحب كتاب “زوربا” نيكوس كازانتزاكي اشترط على معشوقته إيليني ساميو وهي كاتبة أيضاً وكان ذلك قبل الزواج أن تقتصر علاقتهما المباشرة على عشرة أيام في السنة يختاران بالتوافق أن يقضياها في مكان ما من الكوكب الأرضي على أن تكون الرسائل وسيلتهما الأمثل للتواصل خلال ما تبقى من الأيام للتفرغ لمشروعه الروائي الشاق، إلا أن هذا الأمر كان قاسياً على ساميو عندما تزوجته فقد كانت تعيش لحظات الوحشة والضعف وأعباء الحياة اليومية لوحدها، في حين بينت رنا قباني التي تزوجت محمود درويش لتسعة أشهر فقط أن “الكاتب إنسان مريض ومضطرب وأن درويش لم يخلص في قرارة نفسه إلا لقصيدته، محمود لم يخلق ليكون أباً وزوجاً ورب أسرة.. إنه شاعر رائع، لكنه زوج فاشل” وما يؤكد كلامها أنه وفي منتصف الثمانينيات تزوج محمود درويش مرة أخرى من المترجمة المصريةحياة الحيني، لكن الأمر لم يستمر إلا شهوراً قليلة.. يقول محمود درويش: “لم نُصب بأي جراح، انفصلنا بسلام، لم أتزوج مرة ثالثة ولن أتزوج، إنني مدمن على الوحدة.. لم أشأ أبداً أن يكون لي أولاد، وقد أكون خائفاً من المسؤولية، أحتاج إلى الاستقرار أكثر، أغيّر رأيي، أمكنتي، أساليب كتابتي، الشعر محور حياتي، ما يساعد شعري أفعله وما يضره أتجنبه” وتذكر مصادر أن والدة بيكاسو هي التي قالت لزوجته الأولى أولغا: “أيتها البائسة، هل تعرفين أية مأساة تنتظرك؟ إن ابني لا يحب سوى لوحاته، ولن تجدي لديه ما يمنحك إياه”.

شهادات

شاعر رائع وزوج فاشل

يوضح الناقد أحمد علي هلال أنه من الصعوبة بمكان تفسير علاقة المبدعين بالمؤسسة الزوجية بالشكل الناجز، ذلك أنهم يعيشون حياة مركبة بامتياز ذات أبعاد مختلفة تتداخل فيها أفكارهم وسلوكياتهم بحثاً عن قوة المثال ليس في كتاب يؤلفونه فحسب بل باتجاه عالم الأفكار التي يعتنقونها، ويبدو الأمر مع الفلاسفة أكثر إثارة خصوصاً وأن تاريخ الثقافة الإنسانية ضم فلاسفة نأوا عن المؤسسة الزوجية، وبعضهم من شجع عليها دون أن يتزوج، وآخرون ذهبوا لتأسيس مذاهب فلسفية من مثل الوجودية، فمن المعروف أن سقراط وأرسطو وكانط قد تزوجوا وأن ويل ديورانت كتب قصة الحضارة بالاشتراك مع زوجته، فيما كان شوبنهاور وكيرك جارد في مهب مشاريع زواج لم تنجح، مبيناً هلال أن العبارة السائدة في أن العباقرة لا يتزوجون ستبقى ناقصة لأنها تذهب بنا إلى خصوصيات بعينها وسياقات فلسفية ستعني اعتناق الأفكار والإخلاص لها، وذلك ما يشكل برأيه في سياق الذاكرة الثقافية استثناءات بعينها تتعالق مع ظروف وملابسات فكرية أكثر منها واقعية توسلاً للخلود أكثر عبر المؤلفات والكتابات التي تميز حياتهم، وبالمقابل تجهر الذاكرة الثقافية أيضاً بالعديد من الأدباء والمبدعين والفلاسفة الذين تزوجوا ومثلت المرأة بالنسبة لهم عالماً خاصاً وملهماً ترك آثاره في إنتاجاتهم المختلفة، وبالتالي يتساءل هلال: “ماذا يعني كل ذلك في مقاربة جدلية السؤال؟ هل إن الزواج مؤسسة تشل الإبداع؟ “ليؤكد أنه وفي واقع الأمر ليس هناك إجابة نهائية بحكم أن الزواج شيء آخر بغضّ النظر عن فكرة تقييده للمبدع، فكثير من المبدعين جعلوا من هذه المؤسسة تشاركية لزواج العقل بالعاطفة، في حين صرحت زوجة محمود درويش: “إنه شاعر رائع، لكنه زوج فاشل” إذاً هي جدلية الواقع والمثال التي تسفر عن حقائق كثيرة أهمها عن كيف يجعل الفيلسوف من الزواج مشروعاً فكرياً ووجودياً، حتى أن الفشل في هذه التجربة سيبدو ذا معنى.

كائنات غير قابلة للتدجين

وتؤكد الكاتبة فاتن ديركي أن علاقة الزواج بالإبداع فيها إشكالية كبيرة وتخضع لعدة معايير، ولكن ما هو معروف ومؤكد برأيها أن الكاتب يحتاج إلى مساحة من الحرية الفكرية والروحية كي يبدع، وهذه الحرية ترتبط بالمكان إلى حد بعيد، إذ تشكل العزلة بالنسبة له فضاء خصباً يساعده على الإبداع والتحليق خارج الحيز المكاني الذي يشغله، ومن هنا قد يؤدي تزايد المسؤوليات المعنوية والمادية التي تفرضها المؤسسة الزوجية إلى استنزاف الطاقة الإبداعية لديه، موضحة أن الكتابة تحتاج لصفاء ذهني وشعور بالهدوء والاسترخاء قد يفقده الأديب الزوج أو الزوجة، وهذا ما يفسر فشل أغلب الزيجات، وجنوح الكتّاب إلى الحرية والانعتاق من هذه الرابطة التي تكون بالنسبة إليهم كقفص يقبض على حرية الطائر ويمنعه من التحليق في عالم الخيال الساحر، مع إشارتها إلى أن هذه النظرية تبقى خاضعة لطبيعة العلاقة الزوجية والفروقات الشخصية وطبيعة المبدع نفسه، فقد يكون أحد طرفي هذه العلاقة عاطفيّاً يحب حياة الاستقرار ويحتاج لمن يوفر له تلك البيئة التي تشعره بالأمان لكي يبدع ويكتب، وقد يكون الطرف الآخر متفهماً لنزعة الكاتب نحو الهدوء والحرية، فيوفر له ما يحتاجه ويكون له في بعض الأحيان ملهماً، خاصة إذا كان هناك رابطٌ قويّ من الحب يجمعهما، وقدرٌ من النضوج الفكري يتمتع به شريك الكاتب، وهذا ربما يكون نادراً جداً، لأن طبيعة الإنسان وميله لتملك الآخر وتملك وقته قد تطغى على هذه الاعتبارات مما يعقّد العلاقة بينهم، وبالتالي لا بد من الاعتراف أن مؤسسة الزواج وخاصة التقليدية منها غالباً ما تعيق الإبداع لدى الكاتب لأن الكتابة هي مخاض وولادة أي منتوج أدبي غالباً ما تكون برأيها عسيرة تحتاج إلى مراحل عديدة من تأمل واستحضار للأفكار وتغذيتها بالخيال والتحليق الروحي، انتهاءً إلى عملية المخاض والولادة، لهذا كله فإن المبدعين لا يستطيعون الكتابة إلا في حضن العزلة والهدوء، مؤكدة أنها واحدة من هؤلاء، فرسم الحروف بالنسبة لها يتطلب التوحد في عالم خاص شبيه بالفردوس، فضاء تطير في سمائه العصافير وتشرق فيه الشمس، أرض لا يطؤها أحد، تملؤها الزهور الملونة التي تدعوها لقطفها زهرة زهرة، وهي منتشية بتلك الموسيقا الساحرة التي تغرق فيها روحها  بسكينة وصفاء لا حدود لهما، مؤكدة أن هذا هو عالم الكتّاب وفضاؤهم الخاص، وربما كان صحيحاً ما قيل عنهم أنهم كائنات شديدة النزق غير قابلة للتدجين، لهم رؤاهم الخاصة الخارجة عن المألوف، ومن الصعب فهمهم، وربما كانت هذه اللعنة قدرهم، كما هي قدر من حولهم من الناس.