ثقافةصحيفة البعث

فن القدود ونشأته الحمصية

آصف إبراهيم 

هناك تباين في الآراء حول تاريخ فن القدود ونشأتها بين من ينسبها إلى سلاطين الطرب في حلب وبين من يعيدها إلى شعراء حمص، ولعل أبرزهم الشاعر الحمصي المولد أمين الجندي،الذي برز كشاعر مجيد في المرحلة الزمنية الممتدة بين أواخر القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر والذي يعتبر ديوانه الشعري أهم وأقدم وثيقة مكتوبة تأتي على ذكر القدود باسمها المعروف، إذ خُصص قسم مهم من الديوان لهذه المنظومات، مع ذكر اسم الأصل اللحني لكل قد، ومقامه الموسيقي، وضبطه الإيقاعي، وهو بذلك وثيقة ثمينة للغاية أيضاً حول الأغاني الشعبية التي كانت تجري على ألسنة الناس في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

هذا الموضوع توقفت عنده الدكتورة عبير الكوسا في الأمسية الثقافية الفنية التي أقامها “ملتقى أورنينا للثقافة والفنون”، بالتعاون مع مطرانية السريان الكاثوليك في كنيسة الروح القدس، بحمص القديمة، وسعت من خلالها للتأكيد على أحقية مدينة حمص في نسب القدود وفضل الجندي الأول على نشأة هذا النوع من الغناء في فترة زمنية أسقطت، برأيها، من ذاكرتنا الفنية والأدبية، ولم تنل حقها من الدراسة والتوثيق، رغم بروز أسماء شعرية مهمة غير أمين الجندي، ومنهم أحمد البيروتي، وعمر اليافي، وعبدالله الحلبي، وغيرهم ممن كتبوا القدود والموشحات،لكنها لم تترسخ في الذاكرة بسبب الإهمال وغياب المطربين الذين يساهمون في نقلها عبر الأجيال المتعاقبة، كما هو الحال في حلب.

ونسبة فن القدود إلى حلب وقع في حياة صباح فخري على الأرجح، فهو بحسب تعريفه الشائع “مطرب الموشحات والقدود الحلبية”، وقبله كان هذا الاسم يطلق، من دون تخصيص، على فن من فنون نظم الشعر، وهو ترخيم عامي مشرقي للكلمة العربية قدر، والذي يعني القيمة نفسها، هو مثيل عاطفي فصيح لأنشودة دينية، أو مغناة شعبية دارجة بسيطة الكلمات، أو ساذجة المعاني، ولكن لحنها جميل.

ومما يروى عن الشيخ أمين الجندي، حين خطر له ابتكار هذا الفن، أنه كان يسير في أحد شوارع حمص أو حلب، وسمع أطفالاً يرددون مغناة “جوجحتني مرجحتني دودختني دللتني” فأعجبه لحنها، فارتجل من فوره القد الشهير “هيّمتني تيّمتني عن سواها أشغلتني”، وقد راق الأمر للشاعر وجمهور الطرب، فبدأ ينظم القصائد والمنظمات الشعرية العاطفية، على قدر، أي وزن الألحان الشعبية المتداولة.

وكان الشيخ أمين الجندي الشخصية الشعرية الأهم في جميع أنحاء بلاد الشام في القرن الثامن عشر، بحسب الكاتب جرجي زيدان، وكان، كما يقال، مالئ الدنيا وشاغل الناس، نظراً لامتلاكه أسلوبه الخاص في التأليف الشعري، وتمكنه من ابتكار المعاني والصور الجديدة المصاغة بأسلوب سلس، سهل، يشجع الملحنين على تحويل تلك القصائد والموشحات إلى ألحان أخاذة. وكان الشيخ أبو خليل القباني أبرز من لحن بعض قصائد الجندي، وحولها إلى موشحات خالدة ما تزال تتردد على الألسن حتى اليوم، ويظنها الكثيرون من التراث الأندلسي البعيد.

كان الشيخ الجندي أشبه بنهر دفاق في شاعريته، وقد أقام في أكثر من مدينة، فمن حمص مكان مولده ومنزله، انتقل إلى دمشق، ثم إلى حلب التي أقام فيها فترة طويلة. وأينما حلّ كانت ثمة قصائد جديدة، وكان الناس يتناقلون شعره شفاهاً، أو مدوناً في مفكرات شخصية. والغريب أن ما كان معروفاً ومتداولاً من شعره ومنظوماته على ألسنة الحلبيين، يختلف عما كان معروفاً ومحفوظاً لدى الدمشقيين، والحمويين والحمصيين. ولذلك عانى جامعو ديوانه في نهايات القرن التاسع عشر من هذه المعضلة، حيث صدرت النسخة الأولى معنونة بـ “كتاب منظومات الشاعر الفاضل البليغ الشيخ أمين الجندي الحمصي” عن المطبعة الأدبية في بيروت عام 1891، ومشتملة على 172 صفحة فقط، فيما اشتملت النسخة الثانية المطبوعة في دار المعارف في بيروت عام 1903 على 448 صفحة. وقد نوه جامع الديوان، محمد كمال بكداش، أنه قابل نسخته الجديدة من الديوان “على عدة نسخ خطية، وحوى جميع شعره المتفرق مما لم يشتمل عليه الديوان المتداول في الأيدي”.

ومما نقرأه في الديوان: قد “حلو الشمائل يا قوام البان” الذي صدح به المطرب الحلبي محمد خيري، وهو على لحن المشاعل، والمقصود مغناة “عالأوف مشعل سيدي مشعلاني”، وقد “أخت الهلال ما لي سوى” على لحن مغناة “تحت الدوالي”، وقد “أقمار ألحان” على وزن مغناة “نطرح رمانط، وقد “قد لذ لي يا عاذلي” على وزن “عالهودلك عالهودلي”، وقد “باهي السنا لما انثنى” على وزن “يا ميجنا يا ميجنا”، علماً أن اللحن المعروف حالياً لهذا القد هو لأبي خليل القباني، وقد “يا صاح الصبر وهى مني” على وزن مغناة “يا أم الشال”، وقد “يا غزالي كيف عني أبعدوك”، وغير ذلك العشرات من القدود التي غناها صباح فخري، ومحمد خيري، ومصطفى ماهر، وصبري مدلل، وحسن الحفار، وغيرهم الكثير من مطربي حلب المعروفين، وعشرات أخرى لم يغنها أحد حتى اليوم، وباتت في حكم المجهولة هذه الأيام.

وبما أن فن القدود قد ارتبط ارتباطاً توءمياً بصباح فخري، واسم حلب، لذلك كان صعباً على باحثي ومؤرخي الفن الحلبيين، الإقرار بأن القد نشأ نشأة غير حلبية.