دراساتصحيفة البعث

في ذكرى غزو العراق

هيفاء علي

منذ عقدين، بتاريخ 20 آذار 2003، أعلنت إدارة جورج بوش الإبن الحرب على العراق بذريعة امتلاكه أسلحة دمار شامل، مدعومة ببعض الدول الأوروبية، من بينها إسبانيا، والمملكة المتّحدة وإيطاليا.. حرب ظالمة ساهم طابعها غير القانوني في موت مبدأ الأمن الجماعي الذي كان في جوهر إنشاء الأمم المتّحدة في عام 1945.

وبعيداً عن الحديث عن الخسائر البشرية والمادية الجسيمة، التي سببتها هذه الحرب الظالمة التي أطلقت شرارتها بناءً على الكذب والافتراء، لابد من التذكير بأنها كانت غير شرعية وشكلت انتهاكاً صارخاً لميثاق الأمم المتحدة.

حينها، ادّعى المعتدي الأميركي – وهو عضو مؤسس في الأمم المتّحدة وعضو دائم في مجلس الأمن – وحلفاؤه أنّ لديهم غطاءً قانونياً للهجوم على العراق، لكنّ جهودهم الحثيثة لم تنجح في التغطية على الطابع غير القانوني للعملية.

وبالنسبة إلى بعض المستشارين القانونيين لوزارة الخارجية الأميركية، يحذو حذوهم في ذلك النائب العام البريطاني، وكذلك ممثلو وزارة الخارجية البريطانية، يندرج غزو العراق في إطار إذن باستخدام القوّة يعود إلى عام 1990، وبقي سارياً. والمقصود هو القرار 678، تاريخ 29 تشرين الأول 1990، الذي اتُّخذ خلال حرب الخليج الأولى، وتمديد مفعول هذا القرار بعد 12 عاماً والادعاء بأنّ الإذن الذي مُنح حينها باللجوء إلى استخدام القوة يمكن أن يكون ساري المفعول لتطبيق القرار 1441  لعام 2002 الذي يطالب العراق بقبول عودة مفتشي الأسلحة، يندرج في إطار التحايل الفكري.

علاوة على أنّ القرار 678 يندرج هو نفسه كانحراف عن دور ومسؤوليات مجلس الأمن، وهذا الانحراف موضع احتجاج. فيما اعتبر آخرون في محيط الرئيس بوش أنّ التدخل في عام 2003 كان قانونياً باعتباره ممارسة للحق الشرعي في الدفاع عن النفس. بيد أن هذه النظرية، القائلة بمشروعية الدفاع الوقائي، موضع جدل كبير، وليس لها أي أساس قانوني، إذ لم يُعرها الاجتهاد القضائي ولا فقه القانون الدولي جدّية، كما خلص عدد كبير من الباحثين -بما في ذلك في الولايات المتحدة -إلى عدم قانونية هذا التدخل.

وأمام حجم الرهان، أي إمكانية زوال منع اللجوء إلى استخدام القوة الذي يُعتبر تقدماً حاسماً في القانون الدولي، فإنّ أدبيات الفقه القانوني الأوروبية قاومت في مجملها وخلُصت إلى أنّ التدخل الإنكليزي – الأميركي في العراق غير شرعي.

عودة إلى حرب عام 1991 

حقيقة الأمر، تقود محاولات ربط التدخّل الخطير لعام 2003 بذلك الذي وقع عام 1991 – والذي يُزعم أنّه كان قانونياً – إلى الرجوع إلى تلك الحقبة. ويظهِر تحليل دقيق للأحداث ولإطارها القانوني أنّ أزمة نظام الأمن الجماعي كانت قد بدأت منذ حرب الخليج الأولى. ففي الثاني من آب 1990، مع إطلاق صدّام حسين جيشه نحو غزو الكويت – وهو ما يحظره ميثاق الأمم المتحدة – كان على مجلس الأمن الدولي التحرّك باسم الأمن الجماعي الذي تأسس المجلس حوله، وهذا ما قام به من خلال القرار 660 المشار إليه، والذي كان يفرض على العراق الانسحاب، غير أنّ المجلس يفتقر إلى الوسائل العسكرية اللازمة لعمله، وذلك منذ نشأة الميثاق. كان الفصل 43 من الميثاق ينص على أن يحوز مجلس الأمن قوّة عسكرية مشكّلة مسبقاً تتيح له التدخّل باسم الأمم المتحدة. ولمصداقية النظام، كان ينبغي إنشاء هذه القوة وإدارتها بصورة جماعية، غير أنّها لم ترَ النور أبداً، إذ لم تتح ذلك توترات الحرب الباردة المندلعة بُعيد إنشاء الأمم المتحدة، بل غدا مجلس الأمن مقتصراً على التماس آراء الدول عند كلّ أزمة لإيجاد حلول مرتجلة.

في الحالات التي أخذت فيها هذه الحلول شكل قوات فصل (الخوذ الزرقاء) دون تكليف بالتدخل، لم يتأثر النظام، غير أنّه في كلّ مرّة دارت فيها المسألة -تحت غطاء الفصل السابع من الميثاق – حول فرض عقوبات عسكرية بحق دولة ما، كان القصور صارخاً. هو الحال نفسه منذ حرب كوريا عام 1950، حين تدخّل الجيش الأميركي برفقة بضعة كتائب من دول أخرى، وكان الوضع نفسه مجدداً في عام 1990. في 29 تشرين الثاني، أتاح مجلس الأمن للدول الأعضاء “استخدام كافة الوسائل اللازمة” لفرض احترام القرار 660 الذي كان يطالب صدّام حسين بالانسحاب من الكويت، كان يمنحهم إذاً ضوءاً أخضر لاستخدام القوة المسلحة.

لقد خالف المجلس نص الميثاق وروحه، حيث استند المفسرون المتواطئون الحريصون على إظهار هذه الحرب على أنّها ترتكز إلى القانون، إلى الفصل 42، الذي ينصّ على أنّه في حال لم تُنتِج العقوبات غير العسكرية أثراً (وهو ما كان واقع الحال)، يجوز حينها للمجلس “أن يتخذ عن طريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدولي أو لإعادته إلى نصابه”.  كانت روح الميثاق واضحة، بمعنى أنه لا يمكن بأيّ شكل تفويض عملية أمن جماعي تشمل عقوبات عسكرية إلى دولة أو مجموعة دول تتحرّك بحريّة مع مجرّد تعهّدٍ بإحاطة المجلس علماً. وإذا كانت قوات الدول الأعضاء هي التي تشكّل بالفعل وحدات مهمة حفظ الأمن الجماعي للمجلس، من المحتم أنّ يتم “نزع الهوية الوطنية” عنها من خلال وضعها تحت قيادة دولية. وهذا ما لم يحدث.

عقوبات قاتلة

لا يمكن التصديق على حرب الخليج لعام 1991 وفق القانون الدولي، لا سيما أنّه كان ثمة فرصة سانحة أمام المجتمع الدولي لتجاوز المأزق الأساسي. في الواقع، مع نهاية الحرب الباردة قبل ذلك بعامين، زال العائق أمام إبرام الاتفاقات الخاصة التي ينص عليها الميثاق من أجل إنشاء قوة دولية حقيقية. إنّ الإنذار النهائي الذي أُعطي لصدّام حسين في 29 تشرين الثاني 1990  مانحاً إياه مهلة، كان يسمح أخيراً بتفعيل الفصل 43 من الميثاق الذي ينص على تشكيل قوات دولية تحت إشراف لجنة أركان حرب، لم يحصل شيء من ذلك لأنّ روح التعددية في السياسة الدولية كانت قد ماتت.

مع التذكير أيضاً كيف أنّ مجلس الأمن الذي أقرّ بداية عقوبات اقتصادية بهدف صريح، هو إجبار العراق على الانسحاب من الكويت، مدّدها رغم حصول ذلك، على شكل حصار قاتل للشعب. في حين أنّه كان يتعيّن رفع العقوبات، لكن المجلس جدّدها طيلة 12 عاماً عبر قرارات تستعرض الشروط الجديدة التي على العراق الإيفاء بها، خاصةً على صعيد نزع السلاح، لإنهاء العقوبات.

إضافة إلى التوظيف الذي تقوم به الأمم المتحدة لخدمة مصالح بعض القوى الكبرى، لم يتردد مجلس الأمن في بعض النزاعات في منح تفويض لحلف شمال الأطلسي (الناتو) لتنفيذ عمليات عسكرية باسم الأمم المتحدة، كما حدث عام 1995 عند العدوان على يوغسلافيا وتقسيمها إلى أقاليم، وكما حدث عام 2011 في ليبيا، في حين أنّ الناتو حلف عسكري دفاعي، موجّه بصورة واضحة لخدمة مصالح بعض الدول، خشية من تهديدات دول أخرى، حيث لم يكن من الممكن لهذا الحلف غير الحيادي بطبيعته توليّ عمليات عسكرية تنفَّذ باسم الأمم المتحدة.

وكما جرى، فقد اندرجت حرب الولايات المتحدة على العراق في عام 2003 في إطار تحويل نظام الأمن الجماعي إلى أداة قادت نحو تقويضه،  كما أنّ الحروب الدائرة اليوم في إقليم تيغراي، في شرق جمهورية الكونغو، وفي اليمن، وفي أوكرانيا، هي برهنة قاطعة على انهيار هذا النظام، المسمى نظام الأمن الجماعي.