دراساتصحيفة البعث

الرئيس الصيني في موسكو.. أهداف استراتيجية عالمية

ريا خوري

حمل الرئيس الصيني شي جين بينغ معه العديد من الملفات الاستراتيجية المهمّة إلى موسكو، وهي الزيارة الخارجية الأولى له منذ إعادة انتخابه رئيساً لجمهورية الصين الشعبية لولاية ثالثة. لقد تركّزت المحادثات على التعاون العسكري والتقني المشترك، والطاقة التي تمثل على ما يبدو الحصة الأكبر من التجارة بين البلدين، والتي ازدادت أهميتها في ضوء الحصار وفرض العقوبات الغربية على روسيا الاتحادية.

حظيت هذه الزيارة باهتمام كبير نظراً للظروف التي تأتي فيها، ومستوى التعاون الكبير والتفاهم غير المسبوق في العلاقات بين بكين وموسكو، وكذلك لارتباطها بالحديث بشكلٍ مباشر عن مبادرة صينية لحلّ الأزمة بين روسيا وأوكرانيا تتضمن اثني عشر بنداً.

وكانت العلاقات بين روسيا والصين قد شهدت تطوراً كبيراً على جميع المسارات، فإلى جانب الشقين الاقتصادي والسياسي طوّرت القيادة الصينية والقيادة الروسية التعاون العسكري بينهما، ففي عام 2019 كشف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن بلاده ساعدت الصين في تطوير نظام إنذار للهجوم الصاروخي وهو من الأنواع المتطورة جداً في العالم. وكانت الصين قد اشترت من روسيا أنظمة “إس-400” ومقاتلات حربية “إس يو-35” المتطورة.

هنا لا بدَّ من الإشارة إلى التعاون العسكري المتزايد بين الصين وروسيا، والذي بلغ مستويات غير مسبوقة من التنسيق منذ بدء الحرب الأوكرانية الساخنة وزيادة توتر العلاقات الصينية- الأمريكية حول جزيرة تايوان، حيث جرت أواخر العام المنصرم مناورات مشتركة في بحر الصين الشرقي شملت تدريبات على أعلى المستويات على إطلاق صواريخ متنوعة ومدفعية ضد أهداف بحرية محتملة بمشاركة ست سفن صينية، وأربع سفن روسية، وطائرات مروحية من الجانبين. وفي شهر تشرين الثاني الماضي شاركت الصين وروسيا في مناورات جوية فوق بحر اليابان، وفي شهر أيلول الماضي أرسلت الصين أكثر من ألفي جندي إلى جانب أكثر من ثلاثمائة مركبة عسكرية وواحد وعشرين طائرة مقاتلة للمشاركة في مناورة عسكرية روسية، في تأكيد على عمق واتساع العلاقات العسكرية بين الصين وروسيا اللذين يواجهان معاً تحديات أمنية مباشرة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية ومعها دول حلف شمال الأطلسي (الناتو).

ومع استمرار العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وتنامي الأزمة في العلاقات بين الصين والولايات المتحدة، يشير خبراء روس إلى تحوّل كبير وواضح في التوازن في هذا المثلث، فجمهورية الصين استفادت من ضغوط العقوبات المتزايدة، كما أنها أصبحت سوقاً كبيرة للمبيعات في روسيا، وازداد التبادل التجاري بين البلدين بشكلٍ كبير.

لقد كانت الصين في الماضي لا تفرض قوتها على أحد، لكنها كانت دائماً تبادر لوضع الخطط الهادفة إلى السلام في العالم، ونظراً للثقل الضخم الذي تتمتع به الآن فإن أي مبادرة قد تطرحها في هذا السياق وخاصة بعد دورها الكبير واللافت في حلحلة الأزمة بين السعودية وإيران، ستكون لها القوة الفاعلة والجاذبة من قبل كثير من الأطراف المعنية، باستثناء الغرب الأمريكي- الأوروبي غير المرتاح لتنامي الدور الصيني وتطوره على كافة الأصعدة.

الواضح تماماً أنَّ الصين وروسيا تعملان على صياغة مفاهيم جديدة لتطور العالم الحديث والمعاصر، بحيث يكون بدون عقوبات قيود جمركية أو حواجز، لمواجهة الأخطار المشتركة نتيجة تردي العلاقات مع الولايات المتحدة. وعليه فإن زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ تأتي لتأكيد دعم العلاقات الثنائية بين البلدين، ونقلها إلى مستوى جديد من التفاهم والتوافق وتبادل الآراء بشأن الوضع السائد في أوكرانيا وآفاق التغلب على الأزمة.

القيادة الصينية التي تبحث في شأن الوضع القائم في أوكرانيا الساخن لديها العديد من الملفات الأخرى، وخاصة في المجال الاقتصادي وهي الأبرز في زيارة الرئيس الصيني، ففي عام 2022 سجلت التجارة البينية بين الصين وروسيا رقماً قياسياً بلغ مائة وتسعين مليار دولار أمريكي، بزيادة مائة وسبعة وأربعين ملياراً الذي حققه في عام 2021، ويرجع ذلك إلى حدّ كبير للزيادة الكبيرة في أسعار السلع الأساسية الروسية المهمّة خلال العام الماضي.

كما سجلت عمليات تبادل تجارة السلع الصينية التي وصلت إلى روسيا في عام 2022 رقماً قياسياً جديداً بلغ نحو ستة وسبعين مليار دولار أمريكي، أي بزيادة قدرها ثلاثة عشر بالمائة عن عام 2021.

في العلاقات الثنائية بين البلدين، هناك جهد مشترك لتعميق هذه العلاقات على مختلف المستويات نظراً لطبيعة التحديات الكبيرة التي يواجهانها، وخاصة في التصدي للعقوبات الأمريكية– الغربية المجحفة، وذلك من خلال زيادة زخم التجارة والتبادل التجاري والشراكة الاقتصادية، إضافة إلى التعاون في مجال الطاقة، وخاصة ما يتعلق بإمدادات النفط والغاز التي زادت بشكل كبير، إذ إن خط أنابيب الغاز الروسي الصيني المعروف بـ(قوة سيبيريا) يمدّ جمهورية الصين بجزء كبير من حاجتها للغاز، وتبلغ طاقته ما يصل إلى واحد وستين مليار متر مكعب من الغاز المسال سنوياً، يذهب منها نحو ثمانية وثلاثين مليار متر مكعب إلى الصين.

في حقيقة الأمر، يمكن ملاحظة ارتفاع دور اليوان الصيني بشكلٍ كبير في الاقتصاد الروسي الذي يواجه قيوداً وعقوبات ظالمة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على معاملات الصرف الأجنبي. ووفقاً لتقارير البنك المركزي الروسي في موسكو، فقد قفزت حصة اليوان الصيني في تسويات التجارة الخارجية للصادرات إلى ستة عشر بالمائة، والواردات إلى نحو ثلاثة وعشرين بالمائة مقارنة بـأربعة بالمائة في بداية عام 2022.

وتمثل الأصول المقومة باليوان الصيني الآن حوالي نصف السيولة الإجمالية لصندوق الرعاية الوطنية في روسيا، كما زادت نسب التداول الشهرية للعملة الصينية في بورصة العاصمة الروسية موسكو عشرات المرات متبوعة ببيانات البورصة المنشورة.

من هنا يمكننا التأكيد أنّ الاقتصاد الصيني من حيث الناتج المحلي الإجمالي هو من الاقتصادات القوية في العالم، لذا فإنَّ التعاون الاقتصادي المشترك بين الصين وروسيا سيكون في النهاية أكثر فائدة للجميع، مع العلم أيضاً أنَّ روسيا تعتبر تعزيز العلاقات مع الصين أحد أهم عوامل مواجهة العقوبات الغربية وجميع الحصارات الاقتصادية وتبعاتها.