إعادة هيكلة مشهد الطاقة
هناء شروف
للعقوبات واسعة النطاق التي تفرضها الولايات المتحدة وأوروبا على روسيا تأثير على النظام الاقتصادي العالمي، إذ يمثل تصعيد النزاع الروسي الأوكراني والعقوبات واسعة النطاق ضد روسيا نقطة تحول في تطور العولمة الاقتصادية على مدى 30 عاماً القادمة.
في العقود التي تلت نهاية الحرب الباردة، شكلت العملية السريعة للعولمة التي عززت تقسيم العمل، والتخصص والابتكار العلمي والتكنولوجي العالمي في إطار الانفتاح والتعددية، نمطاً شاملاً للتداول بين الولايات المتحدة والصين والتداول بين روسيا وأوروبا.
في التداول بين روسيا وأوروبا، تزود روسيا أوروبا بالطاقة للحصول على السلع الرأسمالية والسلع الاستهلاكية، وفي المقابل تضمن أوروبا قدرتها التنافسية التصنيعية، وهوامش ربح الابتكار على أساس إمدادات الطاقة المستقرة ومنخفضة التكلفة، لكن تصعيد النزاع الروسي الأوكراني، والعقوبات الشديدة من قبل الولايات المتحدة وأوروبا يعرقل هذا التبادل.
من خلال فرض العقوبات، وسعت الولايات المتحدة وأوروبا دلالة وتطبيق مفهوم الأمن القومي من خلال تعزيز ما يسمى بالتجارة القائمة على القيم، وإنشاء شركة زمرة صغيرة في جميع أنحاء العالم، مما يقوض التقسيم الدولي للعمل ويعطل النظام العالمي الحالي.
في أيار 2022، أطلقت الولايات المتحدة “الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ من أجل الرخاء”، والذي يغطي 14 دولة يبلغ عدد سكانها 2.5 مليار نسمة، وناتج محلي إجمالي يبلغ حوالي 40 في المائة من الإجمالي العالمي، ويضع القواعد والمعايير في مجالات مثل التجارة، وسلسلة التوريد والطاقة النظيفة. في آب 2022 وقع جو بايدن على قانون (سي أتش أي بي إس) الذي يقيد التعاون العلمي والتكنولوجي المنتظم بين الصين والولايات المتحدة.
لا شك أن استراتيجيات الاحتواء والمنافسة بين الاقتصادات الكبرى في العالم سيكون لها تأثير سلبي خطير على التجارة العالمية والاستثمار واستقرار سلاسل الصناعة. بالإضافة إلى ذلك، وسعت الولايات المتحدة إلى ما لا نهاية قائمة التقنيات والمنتجات التي تنطوي على الأمن القومي لمتابعة تأمين اقتصادها المحلي.
في خطابه عن حالة الاتحاد في 7 شباط الماضي، تخلى جو بايدن عن روح اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، مطالباً باستخدام وشراء منتجات أمريكية الصنع، والتي جاءت في أعقاب حرب تجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشأن قانون خفض التضخم.
نظرًا لأن الولايات المتحدة تخلت عن دعوتها للتجارة الحرة، وقوضت نظام التجارة الدولي متعدد الأطراف، فقد حول موضوع الاقتصاد العالمي أولويته من التنمية إلى الأمن.
النظام المالي العالمي هو أيضاً في مفترق طرق، إذ أن تسليح الولايات المتحدة وأوروبا للسلع المالية العامة الدولية، مثل سويفت والدولار الأمريكي، جعل العديد من البلدان تتشكك في أسس النظام المالي الدولي، مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ما أضر بمصداقية الدولار الأمريكي، العملة الاحتياطية الدولية وأثارت أهمية العملات الدولية البديلة.
على خلفية الصراعات الجيوسياسية المتصاعدة، تعمل البلدان بسرعة على تنويع احتياطياتها من النقد الأجنبي، فقد تخلت روسيا عن الدولار واليورو في احتياطياتها من العملات الأجنبية لصالح الذهب والرينمينبي، وأكملت الصين معاملات مهمة مع مدفوعات الرنمينبي لأول مرة في نهاية عام 2022، كما ستحاول الهند والدول المنتجة للنفط في الشرق الأوسط توسيع تسوية الطاقة بالعملة المحلية هذا العام، حيث قال وزير خارجية جنوب إفريقيا ناليدي باندور لوسائل الإعلام إن دول “البريكس” تعمل على صياغة نظام دفع جديد للتخلص من سيطرة الدولار.
ونظراً لأن التسويات النفطية كانت تتم بالدولار الأمريكي سابقاً، فإن التسوية بالعملات الوطنية ستغير المشهد المالي العالمي. لقد اختارت العديد من الاقتصادات مثل روسيا والصين والهند الحد من استخدام الدولار الأمريكي في تسوياتها الدولية واحتياطياتها الأجنبية، وارتفع وضع العملات البديلة مثل الرنمينبي كعملة احتياطية أجنبية.
على الرغم من أنه لا يزال من الصعب زعزعة الهيمنة الحالية للدولار الأمريكي، إلا أن حصته في الاحتياطيات الدولية تتراجع تدريجياً. وفي منتصف الثمانينيات شكل الدولار الأمريكي 85٪ من الاحتياطيات الأجنبية العالمية، وانخفضت هذه الحصة إلى 59٪ في النصف الأول من عام 2022.
تتغير أنماط التجارة العالمية الحالية وتدفقاتها أيضاً، بسبب تأثير التجارة القائمة على القيم التي تحركها الولايات المتحدة، وإساءة استخدام تدابير الأمن القومي على وجه الخصوص في الأشهر الستة الماضية، حيث رفضت الولايات المتحدة الوفاء بحكم منظمة التجارة العالمية لمكافحة الإغراق، والتعويض بشأن استخدامها غير السليم للتعريفات في تجارة الصلب والألمنيوم، الأمر الذي قوض قواعد التجارة الدولية.
يخضع مشهد الطاقة العالمي إلى إعادة هيكلة، فقد أدت العقوبات الأمريكية والأوروبية ضد روسيا إلى “فصل صعب” لعلاقات الطاقة الأوروبية والروسية، حيث يدفع الضغط من أجل تحديد أسعار النفط والغاز الطبيعي الروسي إلى إعادة هيكلة مشهد الطاقة العالمي.
تعمل روسيا على إعادة التوازن الاستراتيجي لصادراتها من الطاقة نحو منطقة آسيا والمحيط الهادئ والجنوب العالمي، بينما تستفيد الولايات المتحدة وأوروبا من العقوبات والقيود المفروضة على أسعار النفط الروسي للاستيلاء على قوة تسعير الطاقة من الدول المنتجة للنفط، مما أدى إلى تغييرات كبيرة في علاقات الطاقة بين منظمة البلدان المصدرة للبترول والولايات المتحدة.
لم تؤد القيود المفروضة على الطلب على الطاقة الروسية إلى تغيير الهيكل الجيوسياسي والاقتصادي للعرض والطلب على النفط والغاز فحسب، بل أجبرت أيضاً على تعديل عملية انتقال الطاقة العالمية، خاصةً في الدول الأوروبية، ومن المرجح جداً أن تؤخر الهدف العالمي المتمثل في تحقيق حياد الكربون.