عودٌ على بدء.. البحار الخمسة منطلق للعالم المتعدّد الأقطاب.. والمدخل إقصاء الدولار من التعامل
البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:
لا شك أن العالم الآن يسير نحو نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب، وهذا السير طبعاً فرضته مجموعة من العوامل التي حدّدت بالمحصلة ضرورة التوجّه نحو هذا الحل، وذلك أن النظام العالمي السابق الأحادي القطب أفرز مجموعة من المشكلات، أهمّها تكريس نظريات الاستعمار والهيمنة على الشعوب التي ينبغي أنها تعيش حالياً في القرن الحادي والعشرين المشبع بالقوانين التي تتبجّح بحقوق الإنسان والحريات وغيرها من الأفكار التي تُعنى بضرورة تأمين العدل والمساواة وتكافؤ الفرص بين الشعوب.
وإذا كان النظام العالمي الأحادي قد شارف فعلاً على الأفول نتيجة مجموعة من الهزائم التي منيت بها الإمبريالية العالمية في مشاريعها حول العالم، وخاصة مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي فشل فشلاً ذريعاً في المنطقة وتبلورت معالم هزيمته الكبرى في سورية التي كان يُعلّق الغرب آمالاً كبيرة على الولوج من خلالها إلى استكمال السيطرة على المنطقة برمّتها، وبالتالي إخراج الصين وروسيا نهائياً من المنافسة على الشراكة الاقتصادية معها، فإن العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا وضعت النظام الغربي بأكمله في واقع لا يُحسد عليه، وأطلقت رصاصة الرحمة على جميع المشاريع الغربية الاستعمارية، حيث كان يُفترض أن تتم هزيمة روسيا استراتيجياً هناك عبر مخطّط خاص لإدخالها في المستنقع الأوكراني، وتدميرها بالحرب الاقتصادية والعسكرية معاً فيما يسمّى الحرب الخاطفة.
غير أن الرياح جرت بما لا تشتهي سفن الغرب الأطلسي، فحرب العقوبات التي شنّها الغرب على روسيا على الرغم من عدم وجود مثيل لها تاريخياً في الحروب الاقتصادية، كانت بمنزلة القشة التي قصمت ظهر البعير الأطلسي، حيث أدّت فيما أدّت إلى مشكلات اقتصادية عالمية تتجاوز الآثار الآنية، فالغرب بدأ يقرّ بأن إطالة أمد الحرب هو استنزاف له بكل المقاييس حتى لو كان ذلك مفيداً لبعض الجهات كشركات السلاح والطاقة بشكل آني، وذلك أن الغرب لم يعُد يملك القدرة حالياً على إنتاج كميات هائلة من السلاح يضخّها إلى النظام الأوكراني، ومستودعات الذخيرة لديه شارفت على النفاد، فضلاً عن الضغط الاقتصادي الهائل الذي يمثله الوقوف الكامل خلف أوكرانيا، على اقتصادات الدول الغربية الأساسية التي بدأت تشعر بمرارة المشهد، وخاصة بعد المظاهرات العارمة التي اندلعت في كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، على خلفية رفض الاستمرار في استنزاف دافعي الضرائب في هذه البلاد على حساب خسارة محقّقة بدأت بوادرها في الظهور على الأرض مع تقدّم الجيش الروسي باتجاه وسط أوكرانيا، مع كل ما يعنيه ذلك من فشل عسكري كامل لأكبر حلف عسكري وسياسي واقتصادي غربي، بات مهدّداً بانفراط عقده حسب أكثر المحللين الغربيين المنصفين.
وبما أن هذه الحرب فضحت كثيراً من الأمور التي كانت غائبة عن أذهان كثير من دول العالم حول نيّات الدول الغربية في استكمال السيطرة على العالم ورفض صعود أيّ من القوى العالمية الجديدة، ليس فقط الصين وروسيا، وإنما أيضاً الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وإيران وغيرها من الدول الصاعدة، وحتى تركيا، فإن ذلك فرض تلقائياً عودة هذه الدول إلى فكرة التشبيك فيما بينها، بل التحالف لمنع شمولها بالعقوبات الغربية التي لم تكن روسيا فقط مستهدفة من خلالها وإنما أيضاً كل من يتعامل معها، وهذه الدول في المقدّمة، ومن هنا لاحظنا رفضاً واضحاً من هذه الدول للعقوبات المفروضة على روسيا لأنها بالفعل تستهدف فيما تستهدف هذه الدول، وتفترض فعلاً الإبقاء على حلقة الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم.
ولذلك بدأت بالفعل تتظهّر الأسباب الحقيقية للهجوم على المنطقة العربية تحت عنوان ما سمّي “الربيع العربي”، في المنطقة التي تعدّ مجالاً حيوياً لكل من روسيا والصين، وخاصة بعد ظهور مجموعة من المبادرات التي تؤكد ضرورة التشبيك بين دول الإقليم وكل من روسيا والصين، في مواجهة النزعة الغربية الرامية إلى إبقاء الهيمنة الأحادية على العالم، وعلى رأس هذه المبادرات كانت نظرية البحار الخمسة التي أطلقها السيد الرئيس بشار الأسد حيث بلور هذه الرؤية في إطار نظرية استراتيجية، بعدما واجه استحقاقاتٍ أكبر وأخطر في سياق هذا التموضع الحتمي لسورية في مواجهة المشاريع الاستعمارية.
وقد تمثل هذا الأمر في التصدّي لأقوى هجمة استعمارية عرفتها المنطقة لإعادة رسمها جيوسياسياً بما يخدم مصالح المشروع الصهيوأميركي بدأت باحتلال العراق، عبر مشروع “الشرق الأوسط الكبير” الذي نبع من العقل التوسعي الغربي ذي الحمولة الفكرية المنتمية إلى الفكر الكولونيالي البريطاني في بداية القرن العشرين المؤطرة ضمن بنية قائمة على الاستعلائية الحضارية والمركزية الغربية، حيث تطوّر ضمن هذا النسق ليصل إلى ذروته كمفهوم إمبريالي يغذّي طموحات العقل الإمبراطوري الأميركي في عهد المحافظين الجدد، فأراد الدخول إلى هذا الشرق عبر خلفيات إثنية أو دينية أو مذهبية مجرّدة من أي رافد حضاري وصولاً إلى تفتيته وإدخاله في دوّامة من التناحر حتى لا يتمكّن من رفع رأسه مطلقاً.
وذلك طبعاً سيمهّد في طبيعة الحال لمرحلة الاشتباك عبر ما سمّي (الفوضى الخلاقة) التي تؤمّن سيطرة مطلقة للكيان الإسرائيلي الوظيفي الذي يصبح وجوده مبرراً، بل ضرورياً وسط كيانات طائفية متصارعة.
وبعيداً عن الاسترسال في هذا الجانب من الحديث الذي يمكن أن يستغرق الكثير من الصفحات، تلقّف العقل السوري بوادر انكفاء المشروع الأميركي الذي سيُحدث فراغاً استراتيجياً واضحاً على مستوى الإقليم، فأراد أن يُعدّ البديل لهذا المشروع، منطلقاً من حقيقة محورية سورية في هذا المشرق كقطب رائد لاستقلال القرار الاقتصادي والسياسي، متناقض بنيوياً مع المنظومة النيوليبرالية للمشروع الشرق أوسطي الأميركي، ومتموضع تاريخياً في نسق معادٍ للمشاريع الاستعمارية، منذ تقسيم سورية إلى أربعة كيانات وغرس الكيان الوظيفي المعادي لتطلعاتها في قلبها. وبالتالي كان استثمار العقل الاستراتيجي السوري كل المقوّمات الجيوسياسية والثقافية والحضارية لسورية في إطلاق مشروع “تشبيك البحار الخمسة”: البحر الأحمر والبحر الأبيض والبحر الأسود وبحر قزوين والخليج، سبباً رئيساً في الهجمة الصهيونية والغربية على سورية، حيث شعر الغرب بأن هناك من يحاول سحب البساط من تحته في هذه المنطقة، فكان التحالف الصهيوأميركي التكفيري، لمنع أيّ تطوّر مستقبلي يمكن أن يؤدّي إلى بناء نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب قائم على التعددية ورفض الهيمنة الأحادية للغرب الإمبريالي ومنظومته النيوليبرالية العولمية، وبالتالي جاء المشروع الغربي حاملاً لبذور الاشتباك التي ينبغي أن تحل محل التشبيك الطبيعي لمصالح دول المنطقة.
ولذلك ليس غريباً أن تكون هزيمة المشروع الأمريكي الصهيوني في سورية مقدّمة لهزيمة الغرب الجماعي في أوكرانيا، حيث ظهرت بشكل واضح بوادر الانسحاب الغربي من كثير من المناطق في العالم وحلول قوى أخرى كروسيا والصين محل هذه الدول، ولكن على أسس جديدة من التعاون الاقتصادي ونشر التنمية في المجتمعات بعيداً عن احتكار القطب الواحد للنفوذ والثروة، ومن هنا يستطيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن يقول: إن خط أنابيب غاز “قوة سيبيريا” أصبح “صفقة القرن” من حيث السعة والحجم، بين روسيا والصين، إذ زادت إمدادات النفط والفحم الروسي إلى الصين بشكل كبير.
فالشراكة الاقتصادية الآن بين روسيا والصين على خلفية العدوان الغربي الواضح على الدولتين، شكّلت أنموذجاً جديداً للتعاون بين الدول في مواجهة النظام الغربي الذي يحتكر مناطق النفوذ لنفسه ويحاول جاهداً منع قيام أيّ دولة في العالم بالتمتع بثرواتها وإمكاناتها بعيداً عن سيطرته، وهذا طبعاً سيُغري العديد من دول العالم في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية التي تتمتّع بثروات اقتصادية هائلة بالتشبيك مع الدولتين في جميع المجالات منعاً لسيطرة الغرب الاستعماري على رأس المال العالمي.
ولكن الأمر المهم الذي يميّز التعامل بين الدولتين هو اعتمادهما العملات المحلية في التعاملات البينية فيما بينهما، الأمر الذي سيقصي الدولار تدريجياً من التعاملات البينية بين دول العالم، وقد بدأ الكثير من دول العالم بالانضمام إلى هذه السياسة، وبالتالي فإن إقصاء الدولار من التعاملات ربّما يكون المدخل الرئيس لإعلان نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب.