الألم كنص أدبي
سلوى عباس
كتّاب كثر عانوا من المرض ووجدوا في الكتابة متنفساً للخروج من محنتهم هذه، لكن بعض الكتّاب تحدثوا عنه وعن آثاره عليهم انطلاقاً من مبدأ اعترافهم في الكتابة عن الذات ومعايشتهم للمرض، وقد دوّن العديد من الكتاب تلك الرحلة الذاتية مع المرض ومعاناته، إذ لم يكن للكاتب من مهرب إلا الكتابة بوصفها سلاح مقاومة عندما يهاجمه الألم، وهنا يحضر السؤال: كيف ينطلق الكاتب من ثيمة المرض في نصوصه؟ وكيف يجعل منها فكرة تنفتح في النص على الواقع، وكيف تتحول الذكريات إلى مشروع كتابي تنتقل في الأمكنة، وتتحرك زمنياً في ذاكرة مشحونة بالأسئلة والاتهامات، وهناك أمثلة كثيرة لكتّاب تحدوا المرض منها تجربة الشاعر أمل دنقل الذي نقل لنا عبر كتابه «الجنوبي» ذاكرة المكان الذي عاش فيه وصراعه مع المرض لسنوات امتدت منذ 1979 إلى 1983، إذ كتبت زوجته عبلة الرويني فيه عن الغرفة (8) وما دار فيها لحظة مواجهة أمل للمرض، وعن القصائد الست التي كتبها في هذه الغرفة وتصفها قائلة: «كانت الغرفة تعلن سعادتها بساكنها الشاعر، ولأول مرة أدرك أنّ حوائط الإسمنت أيضاً تحب الشعر، وصار السرطان صديقنا، أو على الأقل أصبح لا يزعجنا وجوده كثيراً، نعانده ونسخر منه، بل ونهزمه برغبتنا المستمرة في الحياة، لكنه دخل عالم الموت بهدوء تام»، وتضيف:
«السبت 21 أيار 1983 الثامنة صباحاً/كان وجهه هادئًا وهم يغلقون عينيه/وكان هدوئي مستحيلًا وأنا أفتح عيني/وحده السرطان كان يصرخ/ووحده الموت كان يبكي قسوته».
البعض الآخر من الكتّاب يعتبر الكتابة نوعاً من التعافي أو جانباً من رحلته، وقد يكون ذلك صحيحاً، لكن بالنسبة للبعض قد تكون الكتابة مرحلة لاحقة على الألم وتجربته، كي يستطيع الكاتب الكتابة عنه وتأمله واستبصاره، لكن المفارقة المؤلمة أن يطال المرض عضواً هو مصدر مهنتك كما حصل مع سيدة تعمل كمذيعة وكان فقدها لصوتها إثر عمل جراحي يعني فقدها لعملها، وقد بقيت 25 عاماً حتى استطاعت الكتابة عن تجربتها عبر كتاب عنونته بـ «كلمات صوتي»، وتقول: «عندما فعلت ذلك شعرت بأنني شخص آخر يكتب، شخص غيري، كأنني خرجت من ذاتي وأنا أتأمل نفسي التي كانت، الكتابة جعلتني «هي» ولست «أنا»، وأوردت مقطعاً من الكتاب لتلك اللحظة التي تبدّل بعدها كل شيء: «أنا أتكلم وأنطق وأصرخ أيضاً، لكن ما من أحد يسمعني! تتبدّل تعابير الوجوه من حولي، تنمحي الابتسامات، ويبدو الحزن في العيون، ويستمر فشلي في إخراج صوتي! أحاول من جديدٍ ومن جديد، فأسمع بعد وقت خِلتُه دهراً، صوتاً غريباً يُشبه زمجرة حيوانٍ جريح… هذا أنا! هذا صوتي!».
وتحضرني هنا أيضاً تجربة الأديبة الراحلة اعتدال رافع مع السرطان عندما أقر الأطباء استئصال ثديها ووجدت نفسها في مواجهة سؤال الأنوثة وكيف ستتقبل الأمر، وقبل العملية بيوم جلست تناجي ثديها وكأنه صديق حميم وتعتذر منه كيف ستسمح لهم أن يستأصلوه وكيف ستعيش بأنوثة مشوهة بدونه، وقد حدثتني عن هذا الموضوع في أحد حواراتي معها قائلة: «كثير من الكتاب كتبوا عن تجربتهم مع المرض وانتصروا عليه، لكن انتصار الأنثى المصابة بالسرطان لايكمن فقط بمقاومتها له خلال مراحل العلاج، وإنما في تغلبها على شعورها بانتقاص أنوثتها». يقول أحد النقاد حول هذه الحالة: «هناك نصوص عديدة تستحضر الألم في بنيتها الإبداعية بوصفه إحدى تيمات الكتابة، وإذا كانت الآلام الظاهرية قد شهدت زخماً هائلا ًفي التعبير الجمالي عنها داخل النص الأدبي، فإن الآلام النفسية أيضا شهدت حضوراً مماثلاً وبصيغ مختلفة، وإن واقع العمل الكتابي بشتى فنونه وأنواعه يسهم وبقوة في محاربة مثل هذه الأمراض؛ لأنها تساعد على التنفيس والبوح بأدوات مختلفة وهي تمثل قيمة وصفة إيجابية لمن أدرك هذه الصناعة والعمل بها وزيادة سبر أغوارها من خلال الاهتمام بهذه المهارة».
إن المفارقة الأجمل والأروع أن أصحاب هذه التجارب يبقون حتى بعد رحيلهم يمنحون الآخرين قوارب من الإمتاع والاستمتاع وهي بمثابة الارتياح حينما تتمكن هذه الحياة بظروفها أن تتأثر بهموم تمر بها، ويعتبر المرض كما الموت ضمن ما يسمى بالمسكوت عنه باعتباره أمراً حميمياً وسرياً في الغالب، غير أن بعض الكتّاب اعترفوا به ونقلوا لنا عوالمه وآثاره عليهم من مبدأ الاعتراف في الكتابة عن الذات.