دومينو الانهيارات المصرفية ينتقل الى الضفة الاخرى للأطلسي.. فهل سيكون العالم بمنأىً عنه؟
البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد:
بعد ما شهده الاقتصاد العالمي من خضاتٍ اقتصادية متتابعة كان سببها الأساسي السياسة النقدية الجشعة من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي التي بات شغلها الشاغل طباعة النقود بلا رصيد وضخها في الأسواق العالمية وشراء السلع منها بشكل استغلالي ممنهج، وما تبعها من أسباب ثانوية كانت تأخذ دور “الكاشف” لا المسبب وأولها أزمة الرهن العقاري في أمريكا عام 2008 وما تبعها من أزمة انقطاع سلاسل التوريد في بحر الصين الجنوبي إبان جائحة كوفيد، وصولاً إلى المواجهة الأطلسية ضدّ روسيا في أوكرانيا وما تبعها من انقطاع سلاسل توريد الغاز والنفط وغيرها من حوامل الطاقة من روسيا إلى أوروبا رداً على العقوبات الغربية عليها، وما تبعها من توترات واستفزازات من أمريكا وأدواتها للصين، وما رافقه من اصطفاف عالمي لقوى ناشئة ضدّ الغرب، فكل ما تم ذكره نقل الانهيارات الاقتصادية من أوروبا التي استنزفتها أمريكا خدمةً للحرب الأوكرانية ورغبة في زيادة السيطرة وتضييق الخناق عليها لتعود إلى حجمها الطبيعي كتابع لها، لتنتقل الأزمة نحو الضفة الأخرى من الأطلسي في أمريكا التي ظنت نفسها بعيدة عن الأزمات عبر خططها في رفع الفائدة كوسيلة للهروب نحو الأمام، ليفاجئ العالم بانهيار بنك وادي السيلكون وغيره من المصارف، وليصل الارتداد إلى بنوك سويسرا وانهيار بنك كريدي سويس الذي طال الادعاء بأنه من البنوك التي من غير الممكن أن تنهار.
لقد بدأت أسهم المصارف الأوروبية تشهد انهياراً رغم صفقة الاستحواذ على البنك السويسري من بنك “يو- بي – إس” ومؤشرات الخطر أصبحت سمة أسواق المال نتيجة قلق المستثمرين ورجال الأعمال، إذ هوت بورصات لندن وباريس وفرانكفورت بشكل مترافق مع خسائر مزلزلة لأكبر بنوك أوروبا، وزادت التساؤلات حول العالم إن كانت هذه الأزمة ستكمل تدحرجها نحو البنوك الأخرى الغربية أو غيرها من دول العالم، لتدعي تلك الدول بأن السيولة الكافية ستنقذ ما تبقى من الانهيار.
إن سويسرا لعبت دوراً قذراً على مر عقود في نهب مقدرات الشعوب لتحقيق رفاهية شعبها من خلال قانون السرية المصرفية وما تبعه من إجراءات جذبت العديد من أثرياء العالم وخاصة ناهبي ثروات شعوبهم في دول العالم الثالث إلى إيداع أموالهم لديها هرباً من المساءلة والضرائب في بلادهم التي قاست الفقر والجوع، بل تطور ذلك إلى تورط بنوكها وخاصة “كريدي” المصنّف كثاني أكبر بنك في سويسرا، منذ 167 عاماً، في صفقات مشبوهة مع جهات غير شرعية ومافيوية دون أي تدخل من سلطات البلاد، أثرت على سمعة سويسرا المبنية على الوهم وحده كمركز مالي دولي، حيث خرج هذا البنك عن الخارطة المصرفية الدولية، بعد أن كان واحداً من أصل 30 مؤسسة مصرفية التي كان يدّعى بأنها لا يمكن أن تسقط مهما كانت الظروف.
وبالعودة إلى المقلب الأمريكي فقد انهارت ضمنه مصارف عادية وليست كبيرة، لكن أثر ذلك وارتداده كان أكبر من المتوقع، وما ساهم في ظهور هذا السقوط هو سياسة رفع الفائدة الجنونية من قبل الفيدرالي الأمريكي لتسع مرات متتالية، حيث وصلت إلى مستوى 4,75 وحتى 5 في المئة، وهذا بدوره سبباً لتوقف عجلة الاستثمار التي تعتمد في أي بلد على الاقتراض، إضافةً إلى زيادة معدلات الإيداع واعتماد المواطنين على ما تحققه مبالغهم المالية من فوائد بدلاً من زجها في المشاريع، وهذا ما سيسبب اختفاء السيولة من الأسواق، كما أن المصارف الأمريكية لم تلتزم بالقواعد والضوابط التي تقضي بفصل الشق الاستثماري عن الشق الادخاري والتعاملات اليومية للمواطنين وللأسف قامت تلك البنوك باستخدام جميع أموال الإيداع في أمور عالية المخاطرة مثل شراء الأوراق المالية.
ومن المتوقع وفق العديد من الخبراء أن تدخل الولايات المتحدة في أزمة ركود قوية في غضون النصف الثاني من هذا العام بعد أن وصلت نسبة المديونية إلى 115% من الناتج الإجمالي، وهي نسبة تقابل ضعفي الحد الأعلى الطبيعي للمديونية، بعد أن كانت تخطط إلى خفض نسبة التضخم إلى أقل من 2% أي المستوى الذي كان سائداً قبل أزمة الرهن العقاري في العام 2008.
إن هذه السياسة المالية الأمريكية الحمقاء ستجر ويلات على جميع دول العالم وخاصةً الفقيرة، كون رفع الفائدة سيرفع من قيمة الدولار وبالتالي سيتسبب في خفض قيمة نقد تلك الدول وما إلى ذلك من تبعات غلاء أسعار المواد الأساسية والمجاعة وعلى رأس تلك الدول، دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي بدأت أيضاً تحاكي الخطوات الأمريكية في رفع معدلات الفائدة ضمن مصارفها. ويتابع الساسة الغربيون كعادتهم الادعاء بمرونة قطاعهم المصرفي والنجاح في نزع فتيل الأزمة داعين لعدم القلق أو الخوف، لكن توقعات الجميع تقود نحو مزيد من الفشل والانحدار للقطاع المالي الغربي برمته وحالة عدم الثقة باتت ملموسة مع توجه الجميع نحو ملاذات آمنة للحفاظ على أموالهم ومدخراتهم كالذهب الذي سجل سعر أكثر من ألفي دولار للأونصة وحتى العملات الرقمية حيث سجلت البيتكوين سعر أكثر من 27 ألف دولار وهو سعر لم تصله منذ شهر حزيران من عام 2022.
أيضاً لقد لفت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى التخبط الأمريكي المالي الذي سيزيد الطين بلةً، حيث أن “الولايات المتحدة ترتكب خطأ كبيراً بتقييد استخدام الدولار في البلدان التي لا تعجبها”، مشيراً إلى أن “شأنها في ذلك شأن من ينشر الغصن الذي يجلس عليه”، ومؤكداً على سبيل المثال أن “روسيا لا تهاجم الدولار، وإنما ببساطة لا يسمحون لها التعامل به، وأنهم بتقييدهم استخدام الدولار لاعتبارات سياسية يلحقون الضرر بأنفسهم”.
رغم كل ما ذكر من أسبابٍ ومعطيات لأزمة المصارف وحلولها المتداولة، فيجب أن لا يغيب عن ناظري الجميع أن ما حدث مرتبط بمخاض العالم لأقطاب جديدة وما ستحمله المرحلة الجديدة من ربط للعملات العالمية بقيمتها الفعلية، لا ما يجرى بها من المضاربات والمقامرات والصيغ الدعائية والتسييس والقوة العسكرية، فالغلبة الاقتصادية ستكون بالدرجة الأولى لمنتجي الطاقة والمواد الأولية والغذاء، ومن يملك طرقاً تجارية أطول وأكثر أماناً وأقل استغلالاً، وبالتأكيد فإن تحقق ذلك يعني المزيد والمزيد من الانهيار الاقتصادي المالي الغربي سواء في أوروبا التي انهار اقتصادها بفعل توقف الصناعة والاضرابات، وصولاً لأمريكا التي تحاول سحب إيداعات الكون نحو بنوكها التي أثبتت هشاشتها بالدليل القاطع.