مجلة البعث الأسبوعية

تكريس سياسة “ازدواجية المعايير” في سلوك المحكمة الجنائية الدولية

د. نجم حمد الأحمد (أستاذ القانون العام – جامعة دمشق) 

يلجأ بعض من دول الغرب، وفي الطليعة الولايات المتحدة، إلى أساليب عدة للضغط على الخصوم السياسيين، وإحدى هذه الوسائل المحكمة الجنائية الدولية، وما قامت به هذه المحكمة من إصدار “مذكّرة اعتقال” بحقّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على نحوٍ يؤّكد ويكرّس في الوقت نفسه سياسة المعايير المزدوجة التي باتت سمة واضحة في القانون الدولي المعاصر.

تبعاً لهذا السياق أصدرت المحكمة الجنائية الدولية بتاريخ 17/ 3/ 2023 “مذكّرة توقيف” بحقّ الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بداعي ارتكاب روسيا جرائم حرب في أوكرانيا، كما أصدرت مذكّرة توقيف أخرى بحق “ماريا اليكسييفا” المفوضة الرئاسية لحقوق الطفل في روسيا. هذا القرار المسيس لم يكن مفاجئاً، بل بدأت التحضيرات له من قبل الدول الغربية منذ مدة من الوقت. وكانت صحبفة “نيويورك” تايمز قد ذكرت قبل صدور القرار أن هناك استعدادات لمقاضاة الروس بذريعة “ترحيل أطفال أوكرانيين قسراً”. وقبل ذلك كان “فيليبو غراندي” المفوّض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين يمهّد للموضوع عندما قال: “إن روسيا تنتهك المبادئ الأساسية لحماية الأطفال في زمن الحرب بمنح أطفال أوكرانيين جوازات سفرٍ روسية وعرضهم للتبنّي”.

وإذا كانت جرائم الحرب وفقاً لأحكام القانون الدولي تشمل على سبيل المثال استهداف المدنيين، وكذلك الهجمات التي تطال المشافي، والمراكز الطبية، والمعالم التاريخية والأثرية، وغير ذلك من المواقع المدنية، فضلاً عن قصف المدن والقرى والمساكن مما لا يشكّل أهدافاً عسكرية، فإنه يحقّ لنا التساؤل عن تقاعس المحكمة الجنائية الدولية عن إصدار مذكّرات مماثلة بحق قادة من دول الغرب إزاء أحداث وقعت بعد نشوء هذه المحكمة بتاريخ 1/ 7/ 2002، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر غزو العراق من قبل الولايات المتحدة بذريعة البحث عن أسلحة دمار شامل، وهي كذبة ما لبثت أن انكشفت وانكشفت معها المقاصد الخفية للولايات المتحدة وبريطانيا الرامية إلى تدمير العراق، هذا ما حدث فعلاً فقد تم تدمير دولة، وملاحقة قادتها وإسقاط دستورها وقتل علمائها وتدمير مدنها وتشريد وقتل الآلاف من سكانها جلّهم من النساء والأطفال والشيوخ.. ومع ذلك لم يفكر أحد في إصدار مذكرات توقيف بحقّ أي من قادة هذا الغزو البربري.

وفي سياق متصل قامت (إسرائيل) بالهجوم على لبنان عام 2006 ما أسهم في نزوح آلاف المدنيين، ولا زالت (إسرائيل) تمارس أعمالها العدوانية بقصف مواقع مدنية في سورية ذهب ضحيتها أعداد كبيرة من المدنيين، فأين المحكمة الجنائية من الدولية من ذلك؟

كما عملت الولايات المتحدة ومنذ عام 2011 على انتهاج سياسية عدوانية في سورية، فدعمت العصابات الإرهابية المسلحة، وعلى رأسها تنظيم “داعش” الإرهابي، وقصفت المدن السورية مثل الرقة والميادين بالفسفور الأبيض المحرم دولياً، وكانت السبب في نزوح مئات الآلاف من السوريين خارج مدنهم وقراهم، ولا تزال الولايات المتحدة تحتل جزءاً من الأراضي السورية بالقوة، وتدعم القوى الإرهابية والانفصالية ومنها تنظيم “قسد” الإرهابي، ولكن لم تلتفت المحكمة الجنائية الدولية إلى أي شيء من ذلك، ولم يخطر ببال قضاتها مجرّد إدانة مثل هذه الأفعال.

كل ذلك يثبت أن قرار المحكمة المكورة بحق الرئيس “بوتين” ليس إلا تسييس لقرارات المحكمة التي تكيل القضايا بمعايير مزدوجة، وربما كان الدافع لإصدار هذا القرار أن الغرب وبعد فشله الذريع في أوكرانيا يريد تحقيق انتصار بحفظ لقادته “ماء الوجه” حتى ولو كان هذا الانتصار شكلياً أو رمزيا.

الغريب أن روسيا ليست عضواً في نظام روما الأساسي الذي بمقتضاه تم تشكيل هذه المحكمة، ومن ثم فإن ما صدر عن المحكمة لا يشكل بالنسبة لروسيا أي قرار ملزم، فهو ليس أكثر من ورقة يُراد بها الضغط على “موسكو” في ملف “القرم” والنزاع الروسي- الأوكراني، وبحسبان أن روسيا لم تكن طرفاً في نظام روما الأساسي، وكذلك الحال بالنسبة لأوكرانيا، فإن ذلك يعني عدم أهمية القرار من الناحية الواقعية، وبطلانه من الناحية القانونية.

لقد استند قرار الاتهام إلى مسؤولية الرئيس “بوتين” عن ترحيل الأطفال ونقلهم بطرق غير قانونية من أوكرانيا إلى روسيا، وهو قول مرسل لم يقم الدليل عليه، ويحتاج من الناحية الإجرائية إلى وجود أدلة مادية تثبت صحة الادعاء، وليس مجرد أقاويل وتقارير مسيسة تفتقر إلى أدنى مقومات النزاهة والموضوعية.

وخلاصة القول إن ما تقوم به المحكمة الجنائية الدولية يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنها أداة طيّعة بيد بعض الدول التي استثمرتها بطريقة سيئة لتحقيق أهداف سياسية بحتة، كما يثبت سياسة المعايير المزدوجة التي ينتهجها المجتمع الدولي في مختلف أنحاء العالم.