الوهن يتفاقم في بيوت العنكبوت
د. عبد اللطيف عمران
ها هو الزمن الطويل الذي جثم بوطأته الثقيلة على العقل والإرادة عقوداً من السنين يكاد ينطوي، وتتجه نجومه إلى الأفول، إنه الزمن المظلم والمربك الذي استبدت به سياسة الهيمنة والتفرد والغطرسة التي قادتها المركزية الغربية بتنّمر صهيو أمريكي دموي وأسود، وذاقت فيه الشعوب الأفروآسيوية – الأمريكية اللاتينية مرارة الاحتلال والاستيطان والقصف والإبادة والقهر والعقوبات، ولم تعرف فيه أجيال الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات وصولاً إلى مطلع الألفية الثالثة طعماً للحياة الحرة الكريمة، ولا للأمل والمستقبل إلا طعم المرارة والقلق، وحيرة سؤال المصير، وإشكالية الهوية والحدود.
نعم إنه زمن يتهيأ للانقضاء والتلاشي دون أسف أو حنين أو احترام نظراً إلى انتشار الكذب والنفاق والوهم والوهن المرافق للاستعلاء الغربي، فأنت حين تقرأ في مؤلفات الغرب في تاريخ الفلسفة والفنون والأدب وعلم الجمال والعلوم التطبيقية، فإنك لن تجد أي احتفاء أو إشارة إلى مساهمة (الأمم الشرقية)، وكأن هذا الجزء من العالم منسيّ، أو يجب أن يُنسى، وما عليه، والحالة هذه، إلا استحسان التبعية والطواعية والانقياد.
بعد الحرب العالمية الثانية تصاعدت أنشطة وإنجازات حركة التحرر الوطني العالمية في الشرق والجنوب، وبدأنا نحصد نتائج طيبة في مجالات السعي إلى السلام والصداقة والتعاون بين الشعوب، وانتشرت السياسات والمنظمات المعنية بهذه المساعي، ورافق هذا صعودٌ مدوّ لليسار العالمي، واستمتع العالم بمرحلة التوازن الدولي والثنائية القطبية لكن هذه المتعة لم تدم طويلاً، فقط لعقدين ونيّف من السنين.
في الحرب العالمية الثالثة التي تتشكل صورها وأساليبها الآن، أو التي بدأت ونشبت ولم ندرِ بعد إن كانت ستبقى مظاهرها كما نشاهد اليوم أو تأخذ أبعادا جديدة أقسى وأشد.
في هذه الحرب تُوطِّد الأمم الشرقية حضورَها الأخلاقي والإنساني أولاً، ثم التقني والثقافي والاقتصادي والعسكري ثانياً، ويزداد تفاعل هذا الحضور، والتطلع إليه كمخرج يكاد يكون وحيداً من الحقبة الكئيبة التي تجاوز زمنها الأسود ثلاثة عقود من مطلع تسعينيات القرن الماضي، حقبة المحافظين الجدد الصماء، حقبة محور الشر، ومن ليس معنا فهو ضدنا، والتي كان ما سمي بـ (الربيع العربي) المسمار الأخير في نعشها المقرف. فظهر بعدها بجلاء ووضوح: الشرقُ شرقٌ، والغربُ غربٌ.
ونحن الذين كدنا أن ننفر من عبارات طالما تمسكنا بها مثل: الصبر الاستراتيجي – نحتفظ بحق الرد – الثوابت والمبادئ – الهوية والوعي والانتماء – العروبة والإسلام – الصمود والمقاومة – محور الممانعة والمواجهة… وغيرها من العبارات والشعارات التي يبين واقع اليوم أصالتها وجدواها.
نحن اليوم في زمن يؤذن بالانتصار، وبأن (حقنا في الرد) لم ولن يضيع، وها هو يسطع قوة وإرادة نتجه معهما الى التعافي والانطلاق نحو البناء المادي والمعنوي، وبأن قاطرة عربات الزمن لم تعد أمريكية ولا غربية، كما طرح فوكوياما في (نهاية التاريخ) بداية تاريخ جديد في مطلع التسعينيات، هو التاريخ الذي ينتهي اليوم أو كاد، أو يجب. فقد ملّ العالم من صورة الأمريكي الكاوبوي في السياسة والاقتصاد، والثقافة أيضاً، وهنا المشكلة، وانتشر الاشمئزاز بين شعوبه من تجليات هذه الصورة… مع ضرورة الأخذ بالحسبان: وما نيل المطالب بالتمني. فقد تكون غطرسة الغرب قابلة للتجدد.
وها نحن اليوم حين ننظر في ثمار سياسات: التوجه شرقاً – الحزام والطريق (طريق الحرير الجديدة) – مساعي الصين في التلاقي السعودي الإيراني – مساعي روسيا في الحوار السوري التركي – مجموعة البريكس – مجموعة شنغهاي، عمل سورية على تعزيز العلاقات العربية الثنائية كمرحلة متممة للمشروع العروبي…، وتطلّع شعوب العالم إلى نجاحات هذه السياسات نظراً إلى المنشود منها في السلام والأمن والاستقرار العالمي…
وبالمقابل حين ننظر إلى الاختلالات في الرؤية (الاستراتيجية)، وفي المجتمع (العنصرية البينية، والتطرف، والنازية والليبرالية الجديدتين)، وفي السلطات (ترامب ونتنياهو)، وفي الاقتصاد (التضخم)، وفي السياسة (التعثر والضياع)، في بيوتات العالم الصهيوغربي..
حينئذٍ سنكون على يقين من أن هذه البيوت ستغدو، مع نجاح تلك السياسات، أوهن من بيت العنكبوت، – بالإذن من سماحة السيد حسن نصر الله- سواء أكانت في تل أبيب أم في واشنطن أم عند ذيولهما وعملائهما…