ناس ومطارح.. هيثم طباخة.. روح البيت الدمشقي للتراث، وعراب ألفته
تمّام بركات
ربما لا يدل مكان على صاحبه، ويخبر عنه بلسان حاله، كما يدل بيت السيد هيثم طباخة-70 عاما-، عليه. هذا الشامي العتيق، الذي استطاع أن يجسد رؤيته وفهمه لفكرة “اليوتويبا”، بأن قام بتحويل بيته، الواقع في حي القنوات الدمشقي، إلى بيت للأحلام حرفياً، ويمكن بشيء من شطحات الخيال، وصف المكان بما هو عليه، في واقعه، وبما توحي تفاصيله، بكونه يجمع بين عالمين سحريين، بطريقة عجيبة ودون قصد، عالم “ألف ليلة وليلة” وعالم “أليس في بلاد العجائب” بتفاصيل دقيقة ورقيقة، تجعل المكان برمته، وكأنه خارج حدود الزمان والمكان، لكن ليس خارج حدود الشغف، الذي كان الدافع العميق لدى “أبو محمد”، في اشتغاله الشاق، على إنجاز عالمه الأكمل، وفقاً لتصوره عن الحياة، ورؤاه التي يعكس فيها هذا التصور الشخصي، والفهم الخاص لطبيعة الإنسان ولكينونته وجوهر وجوده.
ومن باب البيت المفضي إلى زقاق طويل كأمنية، يرحب أبو هيثم بشوشاً بنا قائلاً:
هيثم طباخة داعيكم/ شامي من حي القنوات
أهلا وسهلاً ب حبايبنا/ أهل وجيران وأصحاب
نورتونابمضافتنا من/ وقت ال دقيتو الباب.
بيت الأحلام هذا، أختار له السيد هيثم طباخة، أن يكون متحفاً شخصياً، لمجموعة هائلة من المقتنيات الأثرية، التي يفوح منها مجتمعة، عبق تراث مدينة دمشق، أقدم مدينة مأهولة في التاريخ، ويمكن لأي قطعة منها، أن تحكي فصلاً من فصول الحياة الدمشقية، إلا أن سحر المكان كله، والخيالي فيه، هو في الروح اللطيفة، المرئية، الطافية في الأجواء، بعد أنصاغها “أبو محمد” من بعض روحه، “للبيت الدمشقي للتراث”، والتي لا يكتمل كامل ألقها، إلا بوجوده جالساً في وسط الفسحة السماوية للبيت، بالزي الدمشقي، مع “الطربوش”، يرتشف شاي الظهيرة على مهل، مستعيداً لأصوات وأطياف يانعة في ذاكرته، بينما صوت فريد الأطرش، يتردد في الردهات والغرف، يصعد الأدراج و”يتعمشق” على “الزريعة” “عش أنت إنني مت بعدك” ليشعر الداخل للمكان، بأنه انتقل روحياً إلى عالم الحكايا، وصار من تفاصيل طقوسها الباذخة السحر والجمال.
يعود طباخة من شروده البعيد، على صوت باب البيت المفتوح دائماً، يُقرع، هم الصحب ورفاق العمر، وبعض من زوار المكان، الذين صاروا من أهله، وفي صدر البيت، في “الليوان” الدمشقي، الملبس بالصدف والمحبة، وتحت النظرات الزجاجية، للكثير من الأشخاص، الذين مروا في المكان، سيحيي السيد طباخة بصوته الشجي، ترافقه نغمات عود خلابة، ليلة ذات طابع قدسي مميز، قد تكون ليلة القدر، أو ليلة النصف من شعبان، أو ذكرى المولد النبوي، ومهما اختلفت تسمية ليالي “الأنس” هذه، فإن الشكل الراقي والمستوى الفني الرفيع، والحب الكامن خلف هذا وفيه، لا يتغير، فهذه الليالي جزء من التراث الذي يحافظ عليه السيد طباخة، ويطعمه من قلبه وصوته وعمره أيضاً.
جولة واحدة، أو حتى 10، لن تكفي ليعاين الزائر خطفاً، “الأنتيكة” المرتبة، في كل مكان نت البيت، المؤلف من ثلاثة طوابق، وفي كل طابق، تتوزع على عدة غرف، أكثر من 2000 قطعة تراثية وأثرية/ تعود لعائلة السيد هيثم، منذ أكثر من 100 عام، ولا بد من سؤال يخطر على البال فوراً “كيف تعتني بكل هذا يا أبو محمد؟” وللسؤال سببه، فالقطع كثيرة، مختلفة الأحجام، والبيت كبير، لكن كل شيء فيه يلمع، يبرق، يُبهر، وكأن 100 جنية من جنيات الخيال، تعنني به، حتى أن الزائر، لن تعكر صفو يومه، ولو ذرة غبار حطت على مقتنيات البيت، أو على حيطانه الحانية، وعلى الأساس الموزع ببراعة في أرجاء البيت.
في شهر رمضان المبارك، تضج الحياة في “البيت الدمشقي للتراث”، البخور منعقد طيبه في المكان، يدور مع الدعاء، صاعداً كدرويش في ثوبه الطائر، أماس رمضانية بطقوس الشهر الكريم اللطيفة والاجتماعية، وأبو هيثم يدور بين الضيوف، حريصاً على أن ينال كل ضيف من ضيوف بيته العجائبي، حصته الوافية من المحبة والألفة، تعبق مع الأبخرة الصاعدة من كؤوس الشاي، المحلى ولكن بسكر القلوب.
يودعنا السيد طباخة، وهو يقول أبو هيثم:
أهل الشام بيضلو، متل الحجر/ كل واحد بمحلو
بتفوت ع متحف صغير كتير، بس فيه الوطن كلو.