مجلة البعث الأسبوعية

الذكاء الاصطناعي.. استخدامٌ صهيونيٌّ متعمّد ومثيرٌ للجدل في حرب الإبادة

البعث الأسبوعية- عناية ناصر

لقد بات من الواضح من حجم الموت والدمار الذي لحق بغزة خلال الأسابيع الثمانية الماضية، أن “إسرائيل” تنفّذ سياسة التطهير العرقي والإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في القطاع المحاصر. والآن قدّم المخبرون الإسرائيليون تفاصيل عن كيفية تنفيذ هذه الجرائم ضد الإنسانية، وكيف يتم تبريرها داخلياً داخل المستويات العسكرية والسياسية في “إسرائيل”.

لقد أثبتت سلسلة غير عادية من الشهادات التي نشرتها بشكل مشترك المطبوعات الإسرائيلية “972” و”local call” مؤخراً، أن عدد القتلى الهائل من المدنيين الفلسطينيين هو في الواقع جزء لا يتجزأ من أهداف الحرب الإسرائيلية، وليس تأثيراً جانبياً مؤسفاً.

ويقدّر عدد الشهداء المعروفين حتى الآن بنحو 16 ألف شخص، بالإضافة إلى 6 آلاف آخرين في عداد المفقودين، ومن المفترض أنهم دفنوا تحت الأنقاض، وثلثا الذين قتلتهم “إسرائيل” هم من النساء والأطفال.

قبل عامين، وأثناء هجوم سابق على غزة، اعترف المسؤولون العسكريون الإسرائيليون للمرة الأولى بأن أجهزة الكمبيوتر كانت تزوّدهم بأهداف محتملة. ويبدو أن الهدف كان تجاوز القيود التي فرضتها التقييمات البشرية للضحايا المحتملين من خلال الاستعانة بمصادر خارجية لعمليات القتل عبر الأجهزة.

ويؤكد المخبرون أنه في ضوء المعايير الجديدة والسخية بشأن مَن وماذا يمكن مهاجمته، فإن نظام الذكاء الاصطناعي، المسمّى “حسبورا” أو “الإنجيل”، يولّد قوائم بالأهداف بسرعة كبيرة لا يستطيع الجيش مواكبتها. لقد أصبحت مدخلات “إسرائيل” الآن واسعة النطاق إلى حدّ أنها تسمح بتفجير المباني السكنية الشاهقة دون سابق إنذار، طالما أنه من الممكن الادّعاء بأن شخصاً واحداً يقيم هناك يُعتقد أنه على صلة بالمقاومة الفلسطينية. وبما أن المقاومة الفلسطينية تدير حكومة القطاع، فمن المحتمل أن توسّع السياسة الجديدة دائرة الأهداف لتشمل موظفي الخدمة المدنية والشرطة والعاملين في مجال الصحة والمعلمين والصحفيين وعمال الإغاثة.

ويساعد ذلك في تفسير كيف تمت تسوية حوالي 100 ألف منزل في غزة بالأرض أو أصبحت غير صالحة للسكن، وتشريد ما لا يقل عن 1.7 مليون فلسطيني، أي حوالي ثلاثة أرباع سكان القطاع، وفقاً لأرقام الأمم المتحدة.

 

أساسيات البقاء

وهذا الكشف يكذّب بشكل قاطع ادّعاءات السياسيين الغربيين، مثل الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك وزعيم حزب العمال المعارض كير ستارمر، بأن “إسرائيل” تدافع عن نفسها وتحاول تجنّب وقوع إصابات في صفوف المدنيين. وفي تقرير لها نشر مؤخراً، أكدت صحيفة “الغارديان” اعتماد “إسرائيل” على نظام حوسبة “الإنجيل”. ونقلت الصحيفة عن مسؤول سابق في البيت الأبيض مطلع على تطوير البنتاغون للأنظمة الهجومية المستقلة قوله: إن حرب الذكاء الاصطناعي التي شنّتها “إسرائيل” على غزة كانت “لحظة مهمّة”.

وأضاف المسؤول: “ستراقب الدول الأخرى وتتعلّم”. ولعل أهم ما كشف عنه المسؤولون الإسرائيليون الحاليون والسابقون الذين تحدّثوا إلى”972″ و”Local Call” هو حقيقة أن “إسرائيل” تدرك أن آلاف الضربات الجوية التي تشنّها على المناطق السكنية في غزة لها تأثير ضئيل على المقاومة الفلسطينية، وهذا يتناقض مع التصريحات العلنية بأن “إسرائيل” تسعى للقضاء على المقاومة الفلسطينية. وحتى وفقاً لادّعاءات سلطات الكيان الإسرائيلي، التي استندت على الأرجح إلى التعريف الجديد الأوسع نطاقاً لمن يُعدّ هدفاً للمقاومة الفلسطينية، فقد قتلت “إسرائيل” ما بين 1000 إلى 3000 “من الناشطين”، وهذا يعني أنه حتى وفقاً للتقديرات الإسرائيلية، فإن المدنيين يشكّلون ما بين 85 إلى 95% من القتلى بسبب حملات القصف، وهذا ليس مصادفة، حسب المصادر.

تواصل “إسرائيل” سياساتها العسكرية التي تنتهجها منذ فترة طويلة تجاه غزة، وعلى رأسها ما يسمّى استراتيجية “جزّ العشب”، ولكنها غيّرت التركيز للسماح بإراقة المزيد من الدماء بين المدنيين. وهذا المبدأ، الذي قاد هجمات “إسرائيل” المتكرّرة على غزة على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، وسمّي بهذا الاسم نسبة إلى تدمير حي كامل في بيروت في الحرب التي شنّتها “إسرائيل” على لبنان في عام 2006.

يقوم هذا المبدأ على فرضيتين أساسيتين: أن تدمير منطقة العدو سيجبر السكان على التركيز على أساسيات البقاء بدلاً من المقاومة، وعلى المدى الطويل سوف يشجّع الناس العاديين على الثورة ضد حكامهم. تقليدياً، كان مبدأ “جزّ العشب” يدور بشكل رئيسي حول تدمير البنية التحتية. على الأقل رسمياً، ونظراً لقيود القانون الدولي، زعمت “إسرائيل” أنها أصدرت تحذيراتٍ مسبقة. وكان من المفترض أن يمنح ذلك المدنيين في المنطقة المستهدفة وقتاً للإخلاء. ووفقاً لمسؤولين عسكريين، فإن فترة الإخطار هذه قد انتهت إلى حد كبير، ما يضع المدنيين مباشرة في مرمى “إسرائيل”.

ليست جراحية

أوضح مصدر آثار السياسة الجديدة لـ”972″: لقد ارتفعت الأعداد من عشرات القتلى المدنيين “المسموح بهم” كأضرار جانبية كجزء من هجوم على مسؤول كبير في المقاومة الفلسطينية في العمليات السابقة، إلى مئات القتلى المدنيين كأضرار جانبية.

وقال مسؤول سابق في المخابرات العسكرية: إن هذه السياسة تهدف إلى جعل معظم البنية التحتية في غزة أهدافاً مشروعة: “المقاومة الفلسطينية موجودة في كل مكان في غزة، لا يوجد مبنى لا يحتوي على شيء من أثر المقاومة الفلسطينية، لذا إذا كنت تريد إيجاد طريقة لتحويل مبنى شاهق إلى هدف، فستتمكّن من القيام بذلك”.

ووفقاً لهذه المصادر، ونظراً لزعم “إسرائيل” أن المقاومة توجد تحت الأرض في الأنفاق، فقد عملت “إسرائيل” على تحديد الأهداف الرئيسية، مثل مواقع الأسلحة والمقرات، وبدلاً من ذلك، ركّزت على ما تسميه “أهداف القوة”، أو بشكل أكثر دقة، أهدافاً رمزية، مثل المباني الشاهقة والأبراج السكنية في المناطق الحضرية، فضلاً عن المباني العامة مثل الجامعات والبنوك والمكاتب الحكومية والمستشفيات والمؤسسات العسكرية والجوامع.

وتقول المصادر: إن هذه الهجمات يُنظر إليها على أنها “وسيلة تسمح بإلحاق الضرر بالمجتمع المدني”، ما يضعف قدرة المجتمع على التنظيم والعمل، وقدرة الأسر على العيش. ووفقاً لـ “972”، فإن المسؤولين الإسرائيليين السابقين الذين تحدّثت إليهم “يدرك، بعضهم صراحةً والبعض الآخر ضمناً، أن إلحاق الضرر بالمدنيين هو الهدف الحقيقي لهذه الهجمات”. وفي إشارة إلى ارتفاع عدد القتلى بين المدنيين، قال مصدر آخر: “كل شيء متعمّد. نحن نعرف بالضبط حجم الأضرار الجانبية الموجودة في كل منزل”.

وقالت خمسة مصادر مختلفة لـ”972″: إن “إسرائيل” جمعت ملفاتٍ عن عشرات الآلاف من المنازل والشقق الخاصة في غزة، حيث يعيش أعضاء من المقاومة الفلسطينية. واعتبرت المنازل وكل من يعيش فيها هدفاً مشروعاً بمجرّد دخول شخص مرتبط بالمقاومة الفلسطينية إلى المبنى. وأشار أحدهم: “أعضاء المقاومة الفلسطينية الذين لا يهمّهم أي شيء يعيشون في منازل في جميع أنحاء غزة. لذا وضعوا علامة على المنزل وقصفوه وقتلوا كل من يوجد هناك.

وقال مسؤول أشرف على الهجمات السابقة على غزة: إن “إسرائيل” ستزعم أن طابقاً واحداً في مبنى شاهق كان بمنزلة مكتب للمتحدث باسم فصائل المقاومة الفلسطينية لتبرير تسوية المبنى بالأرض. وقد “فهمت أن الكلمة هي ذريعة تسمح للجيش بإحداث الكثير من الدمار في غزة”. وأضاف المصدر: لو عرفت حقيقة ما تفعله “إسرائيل”، فسيُنظر إلى هذا في حدّ ذاته على أنه إرهاب، ولهذا لا يقولون ذلك.

لقد كان هدف “إسرائيل” هو إلحاق أكبر قدر من الضرر بدلاً من ضرب الجزء المرتبط بالمقاومة الفلسطينية من المبنى، كما كان من الممكن أيضاً إصابة هذا الهدف المحدّد بأسلحة أكثر دقة.

خلاصة القول هي أنهم هدموا مبنى شاهقاً من أجل هدم مبنى شاهق. وقد أوضح كبار المسؤولين الإسرائيليين هذا الهدف خلال الأسابيع القليلة الماضية. وقال عمر تيشلر، قائد القوات الجوية الإسرائيلية، للصحفيين العسكريين: إن أحياء بأكملها تعرّضت للهجوم “على نطاق واسع وليس بطريقة جراحية”.

وفي هذا السياق، قال مصدر: إن هدف “إسرائيل” على المدى الطويل هو “جعل مواطني غزة يشعرون بأن المقاومة الفلسطينية ليست مسيطرة على الوضع”.

 

 حرب مقدسة

تبنّت “إسرائيل” في الهجمات السابقة على غزة، استراتيجية أدّت إلى تدمير البنية التحتية بشكل متعمّد وأدّت إلى مقتل أعداد كبيرة من الفلسطينيين. ولكن وفقاً للمصادر التي نقلتها “972” و”local call” فقد تمّت إزالة جميع القيود، ما أدّى إلى زيادة التداعيات بشكل كبير على المدنيين. وأكّد تيشلر، أنه في كثير من الحالات، قبل قصف المبنى، لم تعُد “إسرائيل” توجّه ضربة تحذيرية بقذيفة صغيرة، تُعرف باسم “طرق الأسطح”. وأضاف: إن هذه الممارسة “تتعلق بجولات القتال وليس بالحرب”. وقد تم تسليط الضوء على الخطر الذي يشكّله ذلك على المدنيين من خلال الكشف عن أن قوات الكيان الإسرائيلي تستخدم الآن نظام الذكاء الاصطناعي “حسبورا”، لتحديد الأهداف. ويؤكد الاسم ذاته، بما يحمله من دلالة توراتية، التأثيرات الخطيرة للأصولية الدينية التي تلعب دورها الآن في قوات الكيان الإسرائيلي، والافتراض المتزايد بأن “إسرائيل” منخرطة في حرب مقدسة ضد الفلسطينيين.

وفي حديثه عن اعتماد الجيش الجديد على تقنية “حسبورا”، قال أفيف كوخافي، القائد السابق لقوات الكيان الإسرائيلي، في وقت سابق من هذا العام: “في الماضي، كنّا نهاجم 50 هدفاً في غزة سنوياً. والآن، تهاجم هذه التقنية 100 هدف في اليوم الواحد، ويتعرّض 50 في المائة منها للهجوم”.

وقال ضابط استخبارات سابق لـ”972″: إن القسم الإداري للأهداف الذي يدير تقنية حسبورا قد تحوّل إلى “مصنع اغتيالات جماعية”. وتم إدراج عشرات الآلاف من الأشخاص على أنهم “ناشطون صغار في المقاومة الفلسطينية”، وبالتالي تم التعامل معهم كأهداف. وأضاف الضابط: إن “التركيز ينصب على الكمية وليس على الجودة”.

وأضاف مصدر يعمل في القسم: إن معظم توصيات تقنية “حسبورا” تمّت الموافقة عليها دون تدقيق ذي معنى: “نحن نعمل بسرعة وليس هناك وقت للتعمّق في الهدف. وجهة النظر هي أنه يتم الحكم علينا وفقاً لعدد الأهداف التي نتمكّن من تحقيقها”.

 

خطة التطهير العرقي

يجب عدم التقليل من أهمية هذه الاكتشافات، وما تكشفه من “أهداف الحرب” الإسرائيلية. في السابق، تم استخدام الحصار الدائم على غزة والاعتداءات الإسرائيلية المتقطعة على أساس مبدأ “جزّ العشب” كأدوات لإدارة القطاع. وكان الهدف هو الإبقاء على تركيز المجموعة على الواجبات الإدارية بدلاً من المقاومة المسلحة: إصلاح الدمار، وابتكار طرق للتغلب على الحصار، واستعادة الشرعية السياسية للمقاومة الفلسطينية في نظر جمهور أوسع أنهكته المعركة. والآن يبدو هدف “إسرائيل” أكثر شمولاً ونهائياً. ووفقاً لتقرير نشرته صحيفة فايننشال تايمز مؤخراً، فإن “إسرائيل” لا تزال في المراحل الأولى من حملة قد تستمرّ مدة عام. على الرغم من تدمير مساحات شاسعة من شمال غزة، والهيجان الإسرائيلي المكثف الحالي في الجنوب، قال مسؤول مطلع على خطط الحرب الإسرائيلية للصحيفة: إن إسرائيل لا يزال أمامها طريق طويل لتقطعه. “ستكون هذه حرباً طويلة جداً، ولسنا حالياً قريبين من منتصف الطريق لتحقيق أهدافنا”. ويتم تجميع معظم سكان غزة إلى منطقة رفح، حيث يتم الضغط عليهم مقابل الحدود القصيرة مع مصر، إذ  كانت لدى “إسرائيل” خطة تطهير عرقي طويلة المدى، تسعى إلى الضغط على مصر لإعادة إسكان سكان غزة في سيناء.

إن الظهور السريع للمرض والمجاعة في القطاع نتيجة الحصار الإسرائيلي المكثف، ما يحرم السكان من الغذاء والماء والكهرباء، يهدف بقوة إلى إجبار مصر على ذلك.

 

تقليص السكان

ووفقاً لصحيفة “إسرائيل هيوم”، التي لها علاقات وثيقة تاريخياً بحزب الليكود الحاكم بزعامة رئيس الحكومة الصهيوني بنيامين نتنياهو، عُرض على المسؤولين في واشنطن مخطط لإضعاف المعارضة المصرية بشكل أكبر، وسوف تقدّم الولايات المتحدة المساعدات للدول المجاورة الأخرى بشرط قبولها للاجئين من غزة، وبالتالي رفع بعض العبء عن مصر، بالإضافة إلى ذلك، تشير الطبعة العبرية للصحيفة إلى خطة تمّت صياغتها بناءً على طلب نتنياهو من رون ديرمر، أحد كبار وزرائه، من أجل “تقليص عدد السكان في غزة إلى أدنى حد ممكن” من خلال عمليات الطرد. وتشير الصحيفة إلى ذلك على أنه “هدف استراتيجي” لنتنياهو.

وتنصّ الخطة على مغادرة الفلسطينيين غزة عبر الحدود مع مصر أو الفرار بالقوارب إلى أوروبا وإفريقيا. إن سياسة الإبادة الجماعية التي تقوم بها “إسرائيل” في غزة، وجعلها غير صالحة للسكن، تتوافق تماماً مع أهداف قادتها المعلنة المتمثلة في معاملة الفلسطينيين باعتبارهم “حيواناتٍ بشرية”، ومع ما كشف عنه المخبرون. ورغم هذا فإن الساسة ووسائل الإعلام الغربية يستمرون في الإصرار على وهم مفاده أن أهداف “إسرائيل” تقتصر على “القضاء” على المقاومة الفلسطينية، وأن السؤال المشروع الوحيد هو ما إذا كانت “إسرائيل” تتصرّف “بشكل متناسب”.

هذا الفشل الشامل للمنخرطين في تفاصيل المشكلة ليس من قبيل المصادفة. وهذا دليل على أن النخب الغربية متواطئة بالكامل في طرد “إسرائيل” للفلسطينيين من غزة. ومهما كانت الأدلة قوية، فحتى عندما يكشف المطلعون على بواطن الأمور عن سياسات “إسرائيل” المتمثلة في الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الجماعي، فإن الغرب عازم على غضّ الطرف عن ذلك، لأنه ببساطة يسعى إليه.