مجلة البعث الأسبوعية

صناعة مجسمات القوارب.. أيقونات جمال بدأت تختفي من البيوت الساحلية

“البعث الأسبوعية” محمد محمود

صناعة مجسمات القوارب، أيقونة الجمال في البيوت الساحلية، والهوية البصرية التي تستعيدها ذاكرتنا من خلال مجسم جميل لسفينة فينيقية مشغولة يدوياً، بالأخشاب الطبيعية، والمزينة بالصدف البحري وخيوط القنب والأقمشة، وتتباهى بها غرف الاستقبال في المنازل التي كنا نزورها في طرطوس، لتقدم هوية مميزة بطابع إبداعي، وبصمة خاصة، لعروس الساحل.. هذه الصناعة تختفي شيئاً فشيئاً، مع تراجع الصناعات اليدوية العريقة في المدينة، ولأسباب مختلفة. ورغم أنها زالت مستمرة حتى اليوم، إلا أن قلة قليلة من الحرفيين، والصناع المهرة، يعملون بها، بإنتاج متواضع، وحسب الطلب، وحتى باتت مهددة بالضياع والاندثار، فهل تزول تلك البصمة التراثية، أم تتجدد وتصبح أكثر ثباتاً، فنحافظ على إرث حضاري عريق، ومعاني سامية تقدمها تلك الحرفة؟!

 

قلة قليلة!

أسماء قليلة يمكن التوقف عندها عند الحديث عن مهنة صناعة مجسمات القوارب في مدينة طرطوس. فراس شلدح وعلي معلا من أبرز الحرفيين الذين تبقوا في المدينة، إضافة لبعض الحرفيين المهرة في جزيرة أرواد، ممن يمتهنون مهنة صناعة القوارب التذكارية. ومع تراجع النشاط السياحي وتأثره بالأوضاع الاقتصادية، بات هؤلاء يدقون ناقوس الخطر إزاء احتمالات زوال هذه الحرفة من بعدهم. يتحدث فراس شلدح، الحرفي الذي احترف تشكيل أيقونات السفن منذ صغره، عن خصوصية الصناعات اليدوية في الساحل السوري وارتباطها به، إذ هي تقدم هوية عن التاريخ السوري وتوثيقه، ويشرح كيف يقوم بصناعة مجسمات مشغولة من مواد طبيعية بطرق يدوية بحتة، كصناعة السفن القديمة، الفينيقي منها والأحدث، إضافة لبعض المخطوطات المكتوبة على الجلد عن التاريخ السوري القديم، وعن صناعة مجسمات السفن. يقول شلدح: إنها تتراجع بشكل ملحوظ رغم أنها كانت هوية للمدن الساحلية، ويرجع ذلك لعوامل مختلفة، منها اتجاه معظم الحرفيين للسفر نتيجة الأزمة، والمتبقي منهم ترك المهنة والتفت لأعمال أخرى لتأمين لقمة عيشه، خاصة في هذه الأوضاع، فالعمل بصناعة مجسم سفينة بحاجة للراحة، وللوقت الكبير، وللتفرغ، إضافة للذهنية المتفتحة والصافية.

 

مواد محلية

ويؤكد شلدح أن صناعة مجسمات السفن التي ينفذها تتم بمواد محلية متوفرة في الطبيعة، فالتصنيع يكون من خشب الزيتون وخيطان القنب، بالإضافة لتوالف بيئي من الغذائيات بعد معالجتها، مثل البن وحب الزيتون وقشر البطيخ، حيث تتم صناعة صبغات طبيعية منها، لكن الوقت الطويل والدقة هو ما يرفع سعر هذه القوارب، مبيناً أنه لا يمكن تحديد سعر ثابت لعمل فني، فهو يختلف بحسب حجم الجهد والعمل، لكنه يبقى بأسعار مقبولة.

وعن تعليم هذه المهنة ونقلها لأجيال أخرى، يبين شلدح أن التعليم مرتبط بمحبة المهنة والرغبة في تعلمها، فنحن نقدم الأساسيات الأولية في طريقة التصنيع والتحضير، لكن الأساس هو الخيال، ثم التصنيع، إذ يجب رسم المجسم أولاً ثم التدريب، والأبعاد هنا مهمة جداً، ويمكن القول أنه من بين 10 هواة لن يخرج أكثر من شخص واحد، أو اثنين، يتمكنان من تعلم المهنة وإتقانها، لأنها بحاجة لعمل وتعب كثيرين!! ويجب التأكيد على عدم الاستهانة بأعمال السوريين، فالمهنة يمكن أن تعود بمردودية مادية جيدة.. سابقاً عرف لدينا مبدعون، مثل محمد الحريشية، الحرفي الذي تفوق مجسم مركب صنعه على أكثر من 200 عمل دولي في فرنسا.. ويوجه الفنان فراس رسالة أخيرة هي رسالة عتب ووجع وألم: نحتاج لدعم مادي لتطوير المهن وإلا فنحن على حافة الزوال!!

 

دراسة منفردة

في المقابل، يشرح الحرفي علي معلا كيف بدأ تعلم المهنة بشكل منفرد، وانكب على دراسة مخططات سفن عالمية كثيرة، ومؤخراً سفينة الكورينا، ليقوم بصناعة مجسمات مميزة من خشب الميغانو المكلف جداً، خيث يبلغ سعر المتر الواحد المستخدم لتصنيع مجسمات السفن مليون ليرة تقريباً. وبالتالي، فالأعمال التي ينفذها مرتفعة الثمن لأنها مبنية وفق رؤية هندسية وتصاميم خاصة وبمواد أولية مرتفعة الثمن.. و”الظروف التي نمر بها تؤثر كثيراً على هذه الصناعة وتقدمها”، ويوضح معلا: في البداية كنت أعمل بالسفن الفرعونية والبريطانية، لكن، في ظل الأزمة، رأيت أن من المهم إعادة إحياء تاريخ المنطقة المتألق، والحضارة الفينيقية التي تميزت بأنها قدمت للعالم صناعة سفن متطورة نقل عنها الفراعنة والبريطانيون.

 

نماذج هندسية

يتابع معلا: “لدي نماذج متعددة من السفن الفينيقية: السفينة البدائية، وأول سفينة بالتاريخ المأخوذة من شكل الورقة الطافية على وجه الماء. بعدها جاءت السفينة الحربية، ومركب الصيد الفينيقي.. والسفينة التجارية والحربية الضخمة التي أصممها بطول 1.8 متر، مكللاً مقدمة السفينة باللون الأرجواني الذي اكتشفه الفينيقيون.

يبدي معلا اهتمامه بإظهار الزي العسكري الفينيقيي من خلال فرسان وجنود على ظهر السفينة التي تتسع لنحو خمسين جندياً على السطح، ونحو 24 في الداخل، مع أسلحتهم من الرماح؛ وهو يعتمد في معلوماته على بعض المصادر العلمية والمنحوتات الحجرية القديمة، حيث تتميز أعماله بالدقة الهندسية والإضافات التي تجعل منها تحفاً باهظة الثمن، خاصة في ظل الظروف الحالية. ويختم معلا بالحديث عن هدية تذكارية لسفينة فينيقية من تصميمه قدمت لمجلس مدينة حلب من مجلس مدينة طرطوس، لتؤكد هذا الطابع الخاص للمدينة.

 

أهمية خاصة!

ما يبدو هو أن حرفة صناعة مجسمات السفن تحظى بدعم واهتمام خاص، رغم تراجعها، كما أكد لنا منذر رمضان، عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الحرفيين بطرطوس، إذ قال: نحن كجهة حاضنة وداعمة لكل الحرف، نعطي هذه الحرفة أهمية إضافية لخصوصيتها وارتباطها بالهوية الساحلية, وطرطوس خاصة، ولدينا اليوم عدد من الأسماء التي تقوم بإنتاج هذه التذكارات المرتبطة بهوية المدينة، وهناك أيضاً من يقوم بصناعة السفن ضمن القوارير الزجاجية، وهناك تصنيع مجسمات في جزيرة أرواد بمواصفات مختلفة، وتمت المشاركة بعدد كبير من المهرجانات والمعارض، منها في أرواد، وتمت دعوة جميع الحرفيين العاملين بتصنيع مجسمات القوارب، لعرض منتجاتهم كجزء ترويجي وتعريفي لتراثنا وحضارتنا. وأكد رمضان: نحن داعمون لهذه الحرفة جداً، ونحاول إحداث سوق للمهن اليدوية لترويجها، فالدعم وحده لا يكفي لأن الطلب عليها ضعيف جداً، والأسعار متفاوتة.

 

المركب الفينيقي

هو رمز لمدينة طرطوس وهوية لمدن الساحل السوري، وهو أيقونة من الإبداع والجمال التي تبقى لسنوات طويلة.. يؤكد منذر رمضان هذه الحقيقة، في معرض حديثه عن ضرورة الحفاظ على هذه الحرفة والتراث. ويضيف: الهدف اليوم يتجاوز إبقاء المركب ضمن مجسم إلى إعادة إحياء صناعة السفن الحقيقية، فهذا المشروع مشروع استثماري مهم، والاهتمام بالمجسم ضروري ليبقى بالذاكرة، ويدرك العالم أننا كنا مصنعين بالأصل للمراكب، فأي دولة في العالم تقدم شيئاً من تاريخها للدلالة على أصالتها، وهذه رسالة من الجذور بأن السوريين هم من علموا العالم كيفية الإبحار والخوض في البحر.. واليوم يشكل الحفاظ على هذا المجسم جزءاً من إرث فني للحفاظ على الإرث والتراث، إضافة لإعادة إحياء هذه الصناعة، والهدف السعي لإعادة بناء السفن الحقيقية بأيد سورية؛ والمطلوب أيضاً تعليمها لأبناء المحافظة، وإدخالها للجامعات بشكل أكاديمي لتصبح مادة أكاديمية، لئلا تبقى ضمن شعارات، وتدرس بشكل علمي وحضاري وصحيح دون إدخالات، فالبلد الصناعي هو من يصنع الآلة، وليس من يستورد الآلات ثم ينتج.