الديمقراطية والحوكمة
هناء شروف
في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كان العالم يعتقد أن الديمقراطية الغربية هي مفتاح نجاح الدولة وهي حجر الأساس للحوكمة العالمية، لكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ذهب الاقتصادي السياسي الأمريكي فرانسيس فوكوياما إلى حدّ إعلان الديمقراطية الليبرالية الغربية على أنها الشكل النهائي للحكومة.
ومع ذلك، فإن الأسطورة التي روّج لها في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” لم تدم طويلاً بسبب الصين، القوة الاقتصادية الصاعدة ذات نظام حكم سياسي مختلف، والتي لم تمنع الديمقراطية على النمط الغربي نجاحها الاقتصادي على الرغم من كل الصعاب، فقد كان الاقتصاد الرئيسي الوحيد الذي حقق نمواً اقتصادياً إيجابياً.
في حين أن العالم في حاجة ماسة إلى تعاون عالمي منسق في مواجهة التحديات العالمية، فإن القيادة العالمية التي يُفترض أنها توفر القوة العظمى الحاكمة لا تلوح في الأفق، بدلاً من ذلك فإنها تضع الحوكمة العالمية في حالة من الفوضى.
على مرّ السنين، تعرّضت الإدارة العالمية التي تتخذ من الأمم المتحدة مقراً لها للخطف من قبل القوة المهيمنة وحلفائها لخدمة مصالحهم الخاصة. ومع ذلك تستمر بعض القوى الغربية في العزف على مصطلح “النظام القائم على القواعد” في خطابها، انطلاقاً من أن القواعد يتمّ تفسيرها وفقاً لرغباتها.
التعاون العالمي المتعدّد الأطراف يزداد تجزؤاً مع الانقسام الأيديولوجي الذي انبعث من قبر الحرب الباردة، ومن المفارقات أن هذا يتمّ باسم الدفاع عن الديمقراطية الليبرالية، وهو شكل الديمقراطية ذاته الذي تعلنه الولايات المتحدة والغرب، ويختاران نشرهما في جميع أنحاء العالم.
يتمّ تصنيف جميع الدول القومية من جانب واحد من قبل الولايات المتحدة على أنها ديمقراطية أو غير ذلك، وهناك الكثير من المعايير الأمريكية في ظلّ المنظور الجغرافي السياسي للولايات المتحدة، فإن الديمقراطية ليست سوى أداة ملائمة للمنفعة السياسية في حشد الدعم لواشنطن.
لا أحد ينكر أن الديمقراطية هي قيمة مشتركة للإنسانية، وأنها معيار للحوكمة العالمية، لكن لم يكن هناك قط نموذج واحد للديمقراطية يناسب جميع الدول القومية، لأن نموذج “مقاس واحد يناسب الجميع” هو ببساطة مستحيل، كما لا يمكن للديمقراطية أن تكون حلاً سحرياً لمعالجة جميع مشكلات الحكم.
لقد أصبح النموذج الغربي للديمقراطية الليبرالية هو المعيار الوحيد للديمقراطية، وقد تمّ الترويج للاقتراع العام ومؤسسة انتخابية متعددة الأحزاب “صوت واحد لرجل واحد” على أنه حجر الزاوية للديمقراطية، لأنه مع وجود قوة الخطاب العالمي في متناول اليد، احتكر الغرب بنجاح الحق في تفسير الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، وجعل هذا العالم هدفاً سهلاً لتسليح الغرب للديمقراطية، فقد حثّت القوى الغربية على “تغيير النظام” في البلدان التي لا ترضخ لإملاءاتها، حيث يتغلب الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة بلا رحمة على سيادة الدول على الرغم من أن ميثاق الأمم المتحدة ينصّ صراحة على أنه لا يوجد بلد لديه التفويض المطلق لفرض معاييره وسياساته المرغوبة على الآخرين بأي مبررات.
نظراً لأن الديمقراطية هي معيار للحكم العالمي في العالم المعاصر، فمن العدل أن يتمتّع الناس في أي بلد بالحق في اختيار أسلوب الحكم الخاص بهم، حيث تُظهر الإخفاقات المتكررة للحكومات الديمقراطية على النمط الغربي أن جوهر الحكم الديمقراطي لا يكمن في تثبيت نظام انتخابي متعدد الأحزاب في حدّ ذاته، ولكن بشكل أكبر في شموليته، سواء كان ذلك في عملية صنع القرار أو في صياغة السياسات وتنفيذها.
إن الغطرسة المطلقة والأحكام المسبقة للنخب السياسية الغربية ضد أي شيء غريب أو غير غربي جعلتهم أقل احتمالاً لقبول أي شكل بديل للديمقراطية في الطيف السياسي العالمي، ففي ممارسة الديمقراطية، فإن اختيار الشعب هو المهم، ومستوى ثقة الناس في الحكم هو أفضل مقياس لمدى تلبية تطلعاتهم في بلدانهم، ويبدو هذا بالتأكيد أكثر امتثالاً للديمقراطية بالمقارنة مع مجرد شكل من أشكال الديمقراطية الانتخابية في الممارسة العملية.
بينما يبشّر العالم بعصر جديد من التعددية القطبية، من المتوقع ظهور نماذج حكم مختلفة عبر الطيف الأيديولوجي والثقافي ويجب قبولها بمجال واسع للتسامح والشمولية، ففي خضم التطلعات والمطالب المتصاعدة في جميع أنحاء العالم، يجب أن نكون في وضع جيد لاعتناق نمط جديد للحكم العالمي يتسم بالتعايش بين نماذج مختلفة من الديمقراطية، لأنه بعد كل شيء لم تعد الديمقراطية حكراً على أي دولة قومية سواء كانت القوة المهيمنة أو غير ذلك.