دراساتصحيفة البعث

الوقود الأحفوري على حساب لقمة عيش الشعوب

سمر سامي السمارة  

أدى الارتفاع الحاد والمفاجئ لأسعار الطاقة الذي بدأ في خريف عام 2021 مع بدء تراجع عمليات الإغلاق الخاصة بـ كوفيد، لاتساع دوامة التضخم التي ما زال العالم يعيشها، فقد تسبّب قطاع الوقود الأحفوري الذي حقق أرباحاً قياسية نتيجة لذلك بأزمة تكلفة المعيشة اليوم. ففي العام الماضي، على سبيل المثال، أعلنت شركة “أرامكو” السعودية عن أرباح بقيمة 161.1 مليار دولار، وشركة النفط والغاز الأمريكية “إكسون موبيل” عن 59 مليار دولار، و”شل” 40 مليار دولار، و”توتال إنرجي” 36 مليار دولار.

أدّت هذه الأرباح الفاحشة إلى تضخم هائل عبر الاقتصاد العالمي الذي يعتمد بشكل متعمد على الوقود، ولاسيما على الغاز الأحفوري. وبحسب وكالة الطاقة الدولية، فإن الغاز الأحفوري وحده مسؤول عن أكثر من 50٪ من ارتفاع متوسط تكاليف توليد الكهرباء، بالإضافة إلى ذلك، الانتهازية التي تمارسها الشركات من خلال رفع أسعارها تحت ستار التضخم، وخلق أزمة تكلفة المعيشة من خلال الزيادات الهائلة على أسعار المواد الغذائية والنقل والسلع الأساسية والإسكان، باختصار، في كلّ شيء.

وشهدت أوروبا العام الماضي الصيف الأكثر حرارة في الخمسمائة عام الماضية، وأكبر موجة جفاف في تاريخ الصين، بالإضافة إلى الفيضانات التي دمرت ثلث أراضي باكستان، وقتلت الآلاف وأثرت على 33 مليون شخص. بمعنى أن هذا هو مستوى الدمار المناخي والبيئي والاجتماعي الذي يعيشه العالم اليوم.

بعد العملية العسكرية الروسية في شباط عام 2022، والإغلاق الجزئي لتدفق الغاز من روسيا إلى الاتحاد الأوروبي، تم إطلاق العنان للقوى الكامنة وراء الأزمات الجارية، والتي سارعت لاستخدام صناعة الوقود الأحفوري لصدّ التقدم الضئيل بالفعل لخفض الانبعاثات، وأعيد إحياء مشاريع البنية التحتية للغاز التي تمّ التغلب عليها سابقاً، وتمّ بناء موانئ جديدة للغاز الطبيعي المسال، وتمت الموافقة على خطوط أنابيب “جاهزة للهيدروجين”، وكلّ ذلك بهدف توسيع ربحية القطاع لعقود قادمة، والأهم تنويع الطاقة في أوروبا، وتغيير إمدادات الغاز من روسيا، والمضي قدماً في مشاريع كارثية مثل خط أنابيب النفط الخام لشرق إفريقيا، أو شحنات الغاز الطبيعي المسال الذي يتمّ إنتاجه في حقل غازكورال في المياه العميقة لحوض روفوما قبالة ساحل موزمبيق.

لقد تمّ استخدام أزمة الطاقة والتكلفة المعيشية اللاحقة لإحياء صناعة الوقود الأحفوري، والتي دفعت ثمنها بالكامل شعوب هذا العالم في ظل السيطرة الخانقة لرأس المال الأحفوري واحتكاراته. وقد تفاقمت الأزمة بسبب اختيار البنوك المركزية زيادة أسعار الفائدة، ما يعني طرد المزيد من الأشخاص من منازلهم، والمزيد من الارتهان، وحالات الإفلاس، والبطالة، حيث تضمن جميع الاستثمارات التي يتمّ إجراؤها حالياً في الوقود الأحفوري الاعتماد المستمر عليها، واستمرار أزمة تكلفة المعيشة وأزمة مناخية كارثية بشكل متزايد.

وبحسب الخبراء والمختصين، فإن العالم لا يزال في بداية مشكلاته، حيث تتضاعف الأزمات وتتفاقم، مع احتمال انتقال العدوى إلى القطاع المالي، فالقرارات التي تتخذها الحكومات والبنوك المركزية لتوسيع البنية التحتية للغاز، وزيادة أسعار الفائدة ليست هي أهون الشرّين كما يدّعون، بل إنها أصل الشر.

واستطاعت شركات الوقود الأحفوري تحقيق مثل هذه الأرباح المذهلة، لأن الحكومات رفضت استخدام سلطتها السياسية، وبدلاً من ذلك سلمتها إلى الرؤساء التنفيذيين للغاز الأحفوري، لذا فإن أزمة تكلفة المعيشة، مثل أزمة المناخ، غير قابلة للحلّ إذا لم ينتهِ الاعتماد على الوقود الأحفوري.

وبينما لجأ المئات من مناصري البيئة لعرقلة مؤتمر الغاز الأوروبي في فيينا، يعمل المسؤولون التنفيذيون للنفط والغاز خلف الأبواب المغلقة جنباً إلى جنب مع كبار المسؤولين الحكوميين لحماية استثمارات المساهمين، والحفاظ على المسار الانتحاري نحو فوضى المناخ.

ومن أجل وقف أزمة تكلفة المعيشة وتجنّب الفوضى المناخية، تحتاج البشرية إلى التخلص التدريجي السريع من الغاز الأحفوري، يليه النفط والفحم بسرعة، وهو ما طالب به المعتصمون بالقول: “نحن بحاجة إلى شتاء الغاز الأخير في أوروبا في 2023-2024. عندما نصل إلى نهاية هذا العقد، نحتاج إعادة النظر إلى الغاز الأحفوري كذاكرة بعيدة”.

من المؤكد أنه ستكون  هناك صعوبات تقنية، حيث إن نظام اليوم يقوم على الإدمان الخطير على الوقود الأحفوري، لكن هذا أولاً وقبل كل شيء سؤال سياسي، وعليه يؤكد المعتصمون أنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي بينما الحكومات عبر الطيف السياسي تختار بشكل متكرر مسار الانهيار والأزمات الاجتماعية والاقتصادية المستمرة من أجل إنقاذ صناعة الوقود الأحفوري.