دراساتصحيفة البعث

تشخيص الأزمة الفرنسية

هيفاء علي

قدمت صحيفة “غلوبال تايمز” الصينية تحليلاً للأزمة الفرنسية حمل عنوان “استنفدت الرأسمالية في الأرباح المتراكمة، ووصلت إلى نقطة حرجة”، وهو نفس المضمون الذي شدد عليه الصحفي والسياسي الفرنسي فابيان روسيل عندما قال: “نحن بحاجة إلى إصلاح معاشات التقاعد، ولكن إذا أردنا أن يكون فعّالاً، يجب أن يتعارض مع الأرباح المتراكمة من قبل رأس المال والذهاب نحو المزيد من المساواة”.

تعتمد وجهة نظر فابيان روسيل على أنه لا يمكن الاستمرار في ضخ مبالغ طائلة في الحروب الإمبريالية، بما في ذلك في أوكرانيا، والقصة ليست مجرد مسألة عدالة اجتماعية، والدليل على ذلك هو أنه لا أحد يقبل الانحدار، ولا سيما شريحة الشباب، ولكن يجب أن نتحرك نحو المساواة إذا أرادت فرنسا أن تظل قادرة على المنافسة، وإقامة علاقات دولية جديدة، مع توزيع جديد للثروة.

ومن ثم تضيف الصحيفة الصينية أن إصلاح نظام المعاشات التقاعدية مسألة أساسية تتعلق بالقدرة التنافسية الوطنية، خاصة بالنسبة للبلدان المتقدمة مثل فرنسا، التي دخلت عصر الرفاهية. وباعتباره أحد المحركات المهمة للاقتصاد الأوروبي، فإن إصلاح نظام التقاعد الفرنسي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتطوره في حقبة ما بعد الصناعة والقدرة التنافسية للاتحاد الأوروبي بأكمله. في عصر العولمة، واجهت فرنسا تحديات اقتصادية ليس فقط داخل الاتحاد الأوروبي، ولكن أيضاً تحديات المنافسة مع الولايات المتحدة والصين والاقتصادات الناشئة الأخرى. بينما ترتكز القوة الاقتصادية الحالية لفرنسا على الأسس التاريخية لأكثر من 500 عام من التوسع الاستعماري الغربي، فضلاً عن إنجازات جيل أو جيلين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. واليوم، لا تزال فرنسا تسيطر على عملة 14 مستعمرة سابقة في غرب إفريقيا، والفرنك هو العملة القانونية، ويجب على هذه الدول إيداع 50 ٪ من احتياطاتها من العملات الأجنبية في الخزانة الفرنسية. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل الفرنسيين لا يزالون يستفيدون من نظام الحماية الاجتماعية الأكثر سخاءً في العالم، بما في ذلك المعاشات التقاعدية، أي من نهب خيرات تلك المستعمرات.

وفي المنافسة وسط العولمة، بدأ الفرنسيون يستنفذون المكاسب التي جناها أسلافهم، ولكن في نفس الوقت لا يزال لدى الدولة المال الكافي، ويمكنها تقديم دعم عسكري كبير لأوكرانيا. ومع ذلك، مع استمرار الزيادة في عدد السكان المسنين في المستقبل، سيواجه نظام التقاعد عجزاً، ولهذا السبب يصر الرئيس الفرنسي على الإصلاحات.

باعتبارها عنصر مهم في نظام الحماية الإجتماعية، تعتبر المعاشات التقاعدية عاملاً مهماً في عكس عدالة التوزيع الثانوي. علاوة على ذلك، تظهر تجربة العديد من البلدان أنه لا يمكن زيادة المعاشات التقاعدية ومن ثم تخفيضها، لذلك، أصبحت مسألة كيفية زيادة صندوق المعاشات التقاعدية باستمرار مشكلة تتعلق بكيفية توزيعها بالتساوي.

بالنسبة لفرنسا، فإن تمديد عمل سن التقاعد للجميع ليس عادلاً، ما يعني أن الغالبية العظمى من العمال، بمن فيهم أولئك الذين يعملون في بيئات ملوثة وخطيرة، سيتعين عليهم تقاسم العبء، لكن طبيعة عملهم المهنية تختلف تماماً عن أولئك الذين يعملون على أجهزة الكمبيوتر. لذلك ينظر إلى الإصلاح على أنه زيادة في تفاقم فجوة الثروة، وفرنسا ذائعة الصيت بوجود فجوة ثروة صغيرة نسبياً مقارنة بما هي عليه في أوروبا، لكن هذه الفجوة اتسعت في السنوات الأخيرة.

في هذا السياق، تُظهر البيانات المأخوذة من مختبر اللامساواة العالمي بكلية باريس للاقتصاد أن التفاوت في الدخل والثروة قد ازداد في كل مكان تقريباً منذ الثمانينيات.  وتعتقد البيانات أن الضريبة على ثروة الممتلكات الشخصية، والتي حلت محل ضريبة الثروة التضامنية، أدت إلى “تسريع” التفاوتات. وعليه، فإن التحديات التي تواجه فرنسا، ليست مجرد مسألة أموال، فكم جيل من الأجيال الجديدة سيستفيد من نظام الرفاهية هذا، وسيكون مستعداً لمواصلة العمل الجاد لخلق نمو اقتصادي مستدام كما فعل أسلافهم؟.

إن إصلاح نظام التقاعد ليس فقط مسألة منهجية، بل هو أيضاً مسألة روحية، ومسألة ما إذا كانت فرنسا قادرة على الاستمرار في الحفاظ على قدرتها التنافسية. بالنظر إلى الوراء في التاريخ، فقد استكشفت الرأسمالية الأوروبية بين الكفاءة والإنصاف للعثور باستمرار على النقاط التي تؤدي إلى الإصلاحات، بينما اختارت شعوب أوروبا مساراً مختلفاً عن الولايات المتحدة، مساراً يؤكد على الرفاهية والتوزيع العادل. ورغم ذلك، حتى في ظل الرأسمالية الاجتماعية، فإن هذا لا يغير طبيعة الرأسمالية وعيوبها المتأصلة، والتي أدت حتماً إلى اتساع فجوة الثروة. ويبدو أن الفرنسيين لا يستطيعون إيجاد مخرج الآن، ولا الولايات المتحدة، إذ يبدو أن الرأسمالية وصلت إلى نقطة تحول، وعلى الرغم من أنها لا تتلاشى بسرعة، فإن المسار المستقبلي غير مؤكد، بحسب الصحيفة الصينية.