مجلة البعث الأسبوعية

الوجع المزمن! العشوائيات تحيط دمشق بحزام يحتل أكثر من ربع المساحة المبنية.. معظم الدراسات الرسمية وصَّفَت الظاهرة دون معالجتها!

دمشق – البعث الأسبوعية

لعل أبرز نتائج الفساد الظاهرة لعيان كل من القاصي والداني على مستوى سورية، تتجلى بمناطق العشوائيات ومخالفات البناء، التي أصبحت ظاهرة معقدة متداخلة بخيوطها مع تشابكات منظومة الفساد المعلن.. فرغم صدور عديد القوانين الخاصة بقمعها والحد من انتشارها، إلا أن محترفي وهواة الدفع والاستلام من تحت الطاولة ومن فوقها، لم يعدموا الوسيلة للالتفاف على الأنظمة والقوانين تارة، وتجاوزها تارة أخرى.. فبمقدار نفوذ المخالف وقدره في المجتمع والدولة وملاءته المالية من جهة، وعدم اكتراث مسؤولي وحداتنا الإدارية وتورطهم بأعمال الفساد من جهة أخرى، بقدر ما تكون المخالفة جسيمة وراسخة رسوخ الجبال!.

ربما لا نجد ذلك الضير إن كان صاحب المخالفة قد اضطر إليها لإيواء ذويه أو لتوسعة سكنه، لاعتبارات يتعلق بعضها بالحاجة القصوى لذلك، وبعضها الآخر بالاهتمام بسلامة الإنشاء قدر المستطاع كونه هو المستفيد منه “أي صاحب المخالفة ذاته”!

بينما تكمن الطامة الكبرى في حال كان البناء معداً للمتاجرة به، فهنا موضوع السلامة الإنشائية سيكون –في أغلب الأحيان- في خبر كان، ولعله لا يخفى على سكان العشوائيات ما تعانيه مناطقهم من تدني عوامل السلامة الإنشائية نتيجة تنفيذها بعيداً عن الرقابة والدراسة والإشراف الهندسي السليم، وغياب أنظمة ضوابط البناء، وتشويه هوية طابعها المعماري، هذا فضلاً عن تجاوز القانون والاعتداء على الأراضي الزراعية، وعلى أملاك الدولة، وكذلك الاستجرار الجائر والمجاني أحياناً لموارد المياه والطاقة!

ضحايا الواقع

بالرغم من كل ذلك فلا يجوز النظر لقاطني هذه المناطق من منظور قانوني بحت، يضعهم في موقف الاتهام، بل على العكس تماماً، يجب أن تتسم النظرة بالكثير من العمق لتقارب الأسباب والمبررات الاقتصادية والاجتماعية التي دفعت تلك الأسر لهذا الخيار غير القانوني، في ظل غياب البدائل القانونية أمامهم، وبالتالي كانوا وما زالوا ضحايا هذا الواقع قبل غيرهم، ولا يجوز أن يغيب عن الذهن أن الشرائح الأعظم من هذه الأسر هي أسر مكافحة ارتضت في سبيل تأمين لقمة العيش وفرصة العمل والتعليم أن تهجر مناطقها الأساسية لتستقر في هذه العشوائيات وفي ظروف قاسية لا ذنب لها فيها.

تضارب

الآن وبعد أن استفحلت ظاهرة العشوائيات، وغزت جميع المدن والمناطق والبلدات، تضاربت الأفكار والمبادرات حول كيفية معالجتها والحد من انتشاره، خاصة وأنها ليست وليدة اللحظة وإنما تمتد بجذورها إلى سنوات طويلة مضت، وجاءت نتيجة أسباب عدة اجتماعية واقتصادية وثقافية، حتى بتنا أمام مشهد مشوه يستدعي تدخلاً جذرياً وليس إسعافياً، وعلى متخذي القرار حيال هذا الموضوع أن يعرفوا بالضبط نقطة البداية لوضع برامج وآليات واضحة ومحددة المعالم، لاستئصال هذه السرطانية العقارية، وتحديد التدخل في المناطق حسب الأولويات التي تفرضها طبيعتها، هذا إن وجدت الإرادة الفعلية للتغيير، التي تستوجب الابتعاد عن القرارات الارتجالية الآنية التي لا تغن ولا تسمن من جوع، بل العكس قد تزيد الطين بِلّة، وينقلب السحر على الساحر.

حبر على ورق

في وقت يرى فيه خبراء التخطيط العمراني ضرورة الوقوف على أسباب هذه الظاهرة ومعالجتها بهدف الحد من انتشارها قبل البدء بوضع أية آلية للتسوية، تؤكد مصدر مطلع وجود دراسات وأبحاث ولكنها –للأسف- لا تزال حبراً على ورق، إضافة إلى طرق وتجارب عالمية يمكن الاستفادة منها بهذا الخصوص.

ولعل المؤسف وفقاً لتأكيدات مصدرنا أنه لا يوجد لدينا إستراتيجية عامة لمعالجة العشوائيات على مستوى سورية، وبحكم اطلاع المصدر على مدينة دمشق فإنه يؤكد أنها محاطة بحزام من العشوائيات تحتل أكثر من ربع المساحة المبنية ويبلغ عدد سكانها أكثر من مليون نسمة، معتبراً أن مشاريع تطوير العشوائيات يجب أن تكون مدروسة على قدر كبير، وأن توجه نحو المناطق الأكثر تعقيداً وليس كما هو حاصل حالياً حيث أن أي مستثمر أجنبي يأتي للاستثمار في سورية يترك له حرية اختيار مكان ونوعية المشروع، والأدهى من ذلك أنه في حال اختارت الجهة العامة المعنية بالمشروع المنطقة المستهدفة، تختار له مناطق خالية من أية إشكاليات، أو أنها تقدم له التسهيلات وتتعهد بإزالة الإشغالات دون أية مفاوضات معه حول تحمله بعض الصعوبات ويشاركها المسؤولية بالتطوير.

ورغم أن هذا الأمر يندرج تحت عمليات الاستقطاب، بيّن المصدر ضرورة ألا يكون على حساب المناطق المعقدة، فعلى الأقل يجب على الجهة العامة أن تقدم التسهيلات في المشروع الأول فقط، على أن يوجه المستثمر نحو مشاريع ذات إشكاليات نسبية في الثاني، وإشكاليات أكثر في الثالث وهكذا.

وفيما يخص المستثمرين المحليين أكد المصدر أنهم على درجة كبيرة من الجشع، وسرد لنا حواراً دار بينه وبين أناس يعتبرون أنفسهم مطورين عقاريين –حسب وصفه- وذلك خلال لقائه بهم في إحدى الندوات، وكانوا وقتها يتنازعون على المناطق العشوائية الخالية من التعقيدات بغية الحصول على نسب بناء عالية لتشييد أبراج سكنية، فقال لهم: لماذا لا تستثمرون وتطورون المناطق المعقدة طالما أنكم مطورين عقاريين وطنيين؟

فأجابوه: إننا نبحث عن المناطق السهلة ذات الجدوى الاقتصادية.

فردّ عليهم: هذا استغلال عقاري وليس تطوير عقاري، لأنكم تريدون أخذ المناطق الزراعية وتستغلونها بعد تغيير صفتها العمرانية.

ما سبق يوضح حقيقة مطورينا وتهاون جهاتنا العامة بالتعاطي مع المشاريع الكبرى الإستراتيجية والحيوية، ويفرض على الحكومة أن تعيد النظر بسياساتها العقارية كافة، وأن تركز فيها على عامل المنفعة المتبادلة، والقيام بمبادرات جديدة تخدم السياسة الإسكانية، كأن تتعاقد مع مستثمرين أو تتشارك معهم وفق صيغ معينة مثل الـ ” BOT ” لبناء ضواحي سكنية عامة يتم تأجيرها لطالبي السكن بما يتناسب مع وضعهم المعيشي.

خصوصية

وأوضح المصدر أن لكل منطقة خصوصية تختلف عن الأخرى، تتعلق بالحالة الاجتماعية والاقتصادية والطبيعية الجيولوجية والهندسية، لذلك لابد من أن يكون التدخل فيها مبنياً وفق أولويات تحدد طبيعة هذا التدخل (سريع – متوسط المدى – طويل المدى) ففي بعض المناطق تكون الحالة الإنشائية والهندسية للأبنية المشادة فيها لا بأس بها ولا تستدعي تدخلاً كبيراً، فيكفي تقديم مجموعة من الخدمات إلى جانب دراسة تجميلية لها، وبعض المناطق أبنيتها ضعيفة تستوجب تدخلاً أكبر (هدم أجزاء منها وإعادة بنائها)، ومناطق أخرى كثافتها السكانية عالية جداً تصل إلى 1400 نسمة في الهكتار الواحد وأبنيتها لا تتوافق وأدنى المعايير الهندسية، وهذه تستدعي تدخلاً سريعاً عن طريق الهدم وإعادة البناء.

منطق رياضي

يؤكد علم الرياضيات أن معرفة سبب أي مشكلة وتحليله يعني حل 50 % منها، ومن هذا المبدأ يرى المتابع للشأن العقاري علي حسن أن الحل ينطلق من سبب المشكلة، والمتمثل بعدم وجود أراضي معدة للبناء والسكن تتوافر فيها البنى التحتية اللازمة من ماء وكهرباء وصرف صحي وطرقات ..الخ، فرغم وجود المخططات التنظيمية لكثير من المناطق إلا أنه لا يوجد اهتمام بتنفيذ هذه المخططات، مشيراً إلى وجود بنية تشريعية مهمة بهذا الخصوص تتمثل بالقانون 9 لعام 1974 وقانون26 لعام 2000، اللذان يجب الاهتمام بهما لإمكانية تنفيذ المخططات التنظيمية، وبالتالي إتاحة الأراضي المعدة للبناء والحد من انتشار العشوائيات على أقل تقدير، مشيراً إلى وجود قضايا أخرى يجب أخذها بعين الاعتبار من شأنها المساهمة بتخفيف حدة العشوائيات مثل عدم تمركز الجامعات في أربعة مدن رئيسة فقط واضطرار أبناء – وأحياناً عائلات الطلبة – للسكن في عشوائيات هذه المدن خاصة دمشق.

معقد ولكن!

رغم أن ملف العشوائيات من أكثر الملفات تعقيداً، إلا أن المشهد العام لها في سورية لا يزال مقبولاً إلى حد ما مقارنة بكثير من دول العالم، حيث أن ظاهرة السكن العشوائي في سورية لا تعتبر ظاهرة لها خصوصية مميزة فهي ليست صفيحا ولا عششا، بل هي مناطق سكنية تتمتع بكافة الخدمات المقدمة للمساكن النظامية في مراكز المدن من حيث الكهرباء والمياه وشبكات الصرف الصحي، أما من الناحية الإنشائية فإن عوامل الأمان غير موثوقة بالعديد من هذه المناطق، وقد يتطور الموضوع ويخرج عن السيطرة الكلية في حال استمرار نموها المطرد، وبالتالي يصبح الصفيح جزءاً لا يتجزأ من عشوائياتنا، لذلك لابد من تفعيل شركات التطوير العقاري وتوجيهها نحو عشوائياتنا ضمن شروط تجعل منها أداة فاعلة وقادرة على قلب منظومة المخالفات وتحويلها إلى ضواحي سكنية بمواصفات عصرية، ونعتقد أنه على وزارة الإدارة المحلية وهيئة التطوير والاستثمار العقاري  أن تلعبا دوراً في هذا الشأن بحيث تسارع الأولى لحل إشكالية التملك في العشوائيات عبر تفعيل قانون التطوير العقاري، وأن تحدث الثانية مناطق تطوير تطال العشوائيات وتوجه الشركات نحوها لتطويرها.

مبادرات

ما سبق يستدعي مبادرات وإجراءات حكومية تجاه العشوائيات، تلحظ كل ما يكتنفها من تجاوزات، سواء على الصعيد العمراني، أم على الصعيد الاجتماعي، تفادياً لتفاقم المشكلات والسلوكيات الأخلاقية الاجتماعية السلبية، التي من شأنها أن تحوِّل هذه المناطق إلى بؤر يصعب السيطرة عليها لاحقاً، ولعل البيئة التشريعية الموجودة حالياً لا تخلو من قوانين يمكنها أن تساهم بشكل كبير بالحد من توسع العشوائيات، ومعالجة القائم منها، مثل القانون 33 الخاص بتثبيت الملكية.

أخيراً

تبقى الإشارة أخيراً إلى أن موضوع السكن العشوائي كان هماً واهتماماً لدى العديد من الجهات العامة المعنية به، وكذلك عند الباحثين المهتمين، وأنجز في هذا الإطار العديد من الدراسات، ولضعف مصادر البيانات التفصيلية الخاصة بهذه المناطق سابقاً، فقد تركزت معظم الدراسات السابقة على توصيف هذه الظاهرة (عمرانياً، اجتماعياً) بشكل عام، وإظهار أسبابها والنتائج السلبية لها، وتعتبر بعض الدراسات المنجزة ضمن وزارة الإدارة المحلية، إضافة لدراسات المؤسسة العامة للإسكان، من أهم الدراسات المنجزة من قبل القطاع العام، إضافة للعديد من الدراسات والتقارير المعدة من قبل منظمات أو هيئات دولية، وكذلك دراسات فردية لباحثين سوريين تم تقديمها من خلال ندوات خاصة بالسكن العشوائي، لكن أياً من هذه الدراسات لم يكن له الصدى المطلوب على أرض الواقع، ويمكننا الجزم أن معظم هذه الدراسات –وللأسف- لم تتعد أن تكون سوى حبراً على ورق، وإذا لم يكن لدينا خطوات فاعلة وجدية باتجاه هذا الملف الشائك فإننا سنكون أمام قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي وقت.