أسواق رمضانية بثقافة شعبية
حلب- غالية خوجة
لا بد وأن تنعكس ثقافة المدينة وأهلها في التفاصيل الحياتية، ومنها ثقافة الطعام والأسواق، وهذا ما يميّز حلب أيضاً كما تميزها معالمها الأخرى من تراث مادي ولا مادي وتاريخ متشعب على مدى العصور، وموقع استراتيجي تجاري واقتصادي وثقافي وسياحي، بينما أهلها يحبون الازدياد في الارتياد في كافة المجالات لدرجة أن المثل الشعبي يقول: “أعرج حلب وصل للصين”. وتلك دلالة على الحركة النشطة والحيوية لأهالي حلب وخبرتهم داخل مدينتهم ووطنهم ودول العالم، وهي من صفاتهم المتواصلة حتى اليوم، وتزداد نشاطاً في المواسم والأعياد والمناسبات ومنها الشعنينة وشهر رمضان المبارك.
ولا تنفكّ حلب عن طقوسها المعتادة في العبادة والتمسّك بالتربية الروحية والنفسية، وتجسيدها ليس بالصيام والقيام فقط، بل بالاهتمام بالمحتاجين، ومراعاة كبار السن، والعطف على الأطفال، والاهتمام بسابع جار، والرفق بالحيوان، لأن المتجول في حلب العريقة سيرى سائق سيارة أجرة يوصل مجاناً بعض من لا يستطيع الدفع، وسائق سيارة خاصة يتوقف ليسأل إنساناً منتظراً على الموقف عن وجهته ويوصله، ولربما تستوقفه امرأة مع أطفالها وتطلب منه إيصالها إلى جهة ما، فيلبّي.
وللمتجول أن يرى كيف يركض الشاب لمساعدة إنسان عجوز على حمل الأكياس، أو في الانتقال إلى الرصيف الآخر، وكيف تسند الابنة أمها أو أباها، وكيف يساعد الابن أباهُ المقعد، وكيف يقدم أحدهم مبلغاً مالياً أو طعاماً لمحتاج أو محتاجة، وكيف تأتي امرأة بالطعام خصيصاً للقطط في الشارع أو الحديقة.
ولا تغادر حلب أيضاً طقوس البيع والشراء، لتشعرك بأنها مركز تسوّق متفرع إلى أسواق أخرى، تضجّ بالمأكل والملبس ومستلزمات البيت من أثاث وأدوات وزينة، فتنفرد لها المساحات في المحلات وعلى الأرصفة، وترفع فوقها المظلات الملونة لتحميها من المطر والشمس والغبار، ولا تفارقها أصوات الباعة وهم يردّدون كلمات تأهيلية وترحيبية وجُملاً محلية وسجعية بنغمة خاصة لجذب المشترين، مثل “تفضلي، كل شيء عندنا بسعر ما في أرخص من عندنا، البسي ياكنّة، البسي يا حماية، المعروك أكل الملوك، افرحي يا طاسة اشترينا كاسه”. كما لا يتوقف الباعة الجوالون عن المناداة، بل يسجّلون أصواتهم ويبثونها من سياراتهم وعرباتهم اليدوية أو عربات تجرها الحيوانات بصوت مرتفع، ويزداد الضجيج مع مشتري الأدوات المستعملة “أصاب البيع” وهو ينادي: “اللي عندو غسالة للبيييييييع، اللي عندو براد للبييييع، اللي عندو فرشة صوف للبييييع”، لذلك، نتمنى من الجهات المعنية أن تساهم بدورها في خفض هذا الضجيج وخفض الأسعار.
أسواق حلب تمنح الإنسان مشاهد تراجيكوميدية، فتشعر بأنك تضحك من تصرفات الباعة ونداءاتهم التي يتفنّنون بها من أجل التلاعب بنفسية المشتري وجذبه بقناعة إلى الاقتناء، وتحزن لأن أغلب المشترين من الناس البسطاء المقبلين على سوق “الباليه” في باب الجنان، ليشتروا الألبسة المستعملة التي ليست رخيصة أبداً في هذه الأيام، كما يقبلون على رؤية ما تعرضه هذه الأسواق، فترى الازدحام في كل مكان ولاسيما بعد العصر إلى لحظة الإفطار، وترى كيف تتحول حلب الجميلة إلى سوق رمضانية مفتوحة بين باب الجنان وساحة باب الفرج والجميلية وساحة الجامعة، ونزلة أدونيس، والفرقان، والنيال والعزيزية والتلل، وسوق الجمعة وسوق الأحد وميسلون، وسيف الدولة وصلاح الدين والشعار والصاخور وطريق الباب، إضافة إلى “المولات” المنتشرة في أغلب المناطق.
ولا تتوانى أبواق السيارات عن الضجيج والازدحام رغم انتشار شرطة المرور مشكورة، ولا يتوانى الأمن والأمان عن الحضور، فللعابر أن يرى كيف يترك التجار محلاتهم مفتوحة، ويترك الباعة بضائعهم في مكانها على الأرصفة أو العربات، ويذهب الجميع للفطور، ولا تجد إلاّ المضطر في الشارع بين آذان المغرب والعشاء، ورغم ذلك، لا يمدّ أحد يده ليأخذ أي شيء، لأن أهالي حلب وعلى صعوبة ظروفهم، لا يفكرون بمدّ أيديهم إلى أشياء ليست لهم، وهي من ثقافتهم التربوية الأنيقة رغم الفقر والعوز والحاجة، وما الجرائم القليلة الأخرى التي تحدث منذ الحرب الإرهابية إلاّ حالة دخيلة على المجتمع العربي السوري ولا تمتّ لهم بأية صلة.
وإضافة لذلك، تتميز حلب بثقافة طعام خاصة، فتبدو المائدة مزينة بالتمر والمقبلات الأساسية مثل الكبة النية وأطباق السلطة والتبولة والفتّوش والمقالي والعصائر والمشروبات الرمضانية إلى جانب الطبق الأساسي من محاشٍ وكبب ويبارق ومجدّرة ومشاوٍ وفول وحمّص، فتختلط النكهات والروائح اللذيذة مع روائح الفصول، ومشاهد العرائش بياسمينها الأصفر، وألوان السماء وهي تسجد بين الغيوم والشعاع الأخير للشمس وتدرجات أشعة القمر.