الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

مسْح الذّاكرة والاستعباد

عبد الكريم النّاعم

دخل صديقي منفرِج الأسارير كالربيع الذي حلّ في الطبيعة، لا في نفوسنا، وقال: “لقد قرأتُ هذه الجملة، وشغلتْني، وقد أحببتُ مناقشتها معك”.

قلت: “تفضّل”..

تابع: “(إذا أردتَ أنْ تستعبد شعباً فامسح ذاكرتَه)، ما رأيك”؟.

توقّفتُ قليلاً لاستيعاب مضمون الجملة، بمداها الأقرب، على الأقلّ، وقلت: “الذّاكرة عندي لها أنواع، فمنها ذاكرة (الوعي)، أعني ضمناً (الوجدان) وهو لا علاقة له بالتعليم، فقد تجد شبه أميّ ناصع الوجدان، وأستاذاً في الجامعة وهو لصّ، وثمّة ذاكرة (تخزين تراكمي) تخزّن كلّ ما يمرّ دون أن يثير انتباهها، وثمّة ذاكرة (متعصّبة) دينيّاً، أو مذهبيّاً، أو قبائليّاً، أو عشائريّاً، وهذه ذاكرة خطيرة جداً، لأنّها لا تنظر إلى العالم المحيط بها إلاّ مصبوغاً بألوان تعصّبها”.

قاطعني بحماس وقال: “الآن انفتح لي باب واسع، وهو أنّ أمريكا، ومن معها، حريصة على مسح ذاكرة الشعوب ليسهل عليها التحكّم بمصير العالم”.

قلت: “حيّاك الله، لقد وضعتَ إصبعك على موْضع الدّاء، إنّ أمريكا تصرّ على محْو ذاكرة العالم، لتبقى هي السّائد المسيطر، يصدّر أسلحته، ويتبجّح بـ “ديموقراطيّته”، وهو بلا ذاكرة، فبعد اكتشاف أمريكا هاجر إلى أمريكا الشماليّة المغامرون، والباحثون عن المال، من كلّ بقاع الأرض، وكان قد اجتثّ عن عمد أهالي الأرض الأصليين، وهم ذوو حضارة وذاكرة عميقة، ورغم أنّ أوروبا ذات ذاكرة طيّبة منذ عصر الأنوار، فهي رغم عمقها الفكري، والفنّي، تكاد تكون بلا ذاكرة فاعلة، لأنّ واشنطن منذ الحرب العالمية الثانية تُصادر هذه القارة، وتُصادر ذاكرتها لدرجة (المحْو).. أمريكا يا صديقي الداء الأكبر في تاريخ العصور الحديثة الذي يريد أن يسوّق بضاعته كما أفكاره، فتذكّر “صراع الحضارات” و”نهاية التاريخ، وقد رُوِّج لهاتين الفكرتين بقوّة الإعلام الأمريكي ليبدو العالم ممسوح الذاكرة، وليس فيه فاعلاً إلاّ ما تُنتجه أمريكا، فمن التخطيط إلى تغليب الطعام، ومطاعم ماكدونالد، والجينز، وقصّات الشعر الغريبة العجيبة، والتقليعات التي قد تنبثق فجأة هنا وهناك، تفعل ذلك وهي تُدرك أنّها تُواجه عالَماً عميق الجذور، فروسيا رغم تقاطعاتها الثقافية مع أوروبا ذات ذاكرة في الفلسفة، والأدب، والفولكلور، والعمارة، والموسيقا، فإذا انتقلتَ إلى الصين والهند وأفغانستان، وقوس الدول المحيطة بجنوب الاتحاد الروسي، وجدتَ نفسك أمام فيض من الذّواكر التي حفرت عميقاً في باطن التاريخ.

هنا أشير إلى تشابه الموقف الأمريكي مع الموقف الإسرائيلي، والذي هو أيضاً بلا ذاكرة فوق أرض فلسطين، ولذا يسعى لمسْح الكثير من المعالم الفلسطينية العربية الإسلامية من خلال تدمير ما يُدمّره، هو وراعيه الأمريكي الذي لم يـتخلّ عنه، ولن تحيط بهم أقطار وجيران ضاربة الجذور عميقة في الذاكرة الإنسانيّة، ذاكرة تصل إلى عشرة آلاف سنة قبل السيد المسيح، متضمِّنة العمارة، والزراعة، والأبجديّة، والهندسة، والدين، والعادات، والتقاليد، الفولكلور، الطعام، بما كان لها من فاعليّة، أيام انتشار الحضارة العربيّة الإسلاميّة في العالم لمئات من السنين، ولا تنس تاريخ بلاد فارس الواسع العميق، وأمريكا، تعرف هذا جيداً، كما تعرف أنّ وضْع اليد على الذواكر الوطنيّة القوميّة، وتنحيتها لا يقلّ أهميّة عن التفوّق في التكنولوجيا، والإعلام، والأسلحة، والتقليعات التي تتعمّد إطلاقها في الأوساط التي تشكّل بداية لانتشارها.

ومن هذا المنظور تتوضّح لنا حقيقة الصراع الذي يبدو على السطح شبه هادئ، وهو مصطخب الأعماق بين الصين والاتحاد الروسي، وبعض أعضاء شنغهاي، إذ تمتزج السياسة بالاقتصاد بالسلاح لحسم معركة لا بدّ من حسْمها، ونرجّح أن يكون النصر فيها لغير محور تل أبيب واشنطن.

aaalnaem@gmail.com