“الساحل الأفريقي” يكثّف جهوده للخروج من المستنقع الأخطر في العالم
“البعث الأسبوعية” – بشار محي الدين المحمد:
تعاني دول الساحل الأفريقي من هجمات إرهابية منذ عدة سنوات تأخذ منحىً تصاعدياً لكنه الآن تأجج بشكل كبير، بالتزامن مع قيام بوركينا فاسو ومالي بطرد القوات الفرنسية من أراضيهما بشكل كامل، ورغبة معظم الدول الأفريقية بطرد فرنسا وكل القوى الاستعمارية الغربية عن بلادها بعد طول معاناة، ففي نهاية الأسبوع الفائت قُتل 44 شخصاً إثر هجومين إرهابيين وقعاً شمال بوركينا فاسو، بعد أن نفذت جماعات إرهابية الهجومين في قريتي كوراكو وتوندوبي بمنطقة الساحل، وبدوره قام الجيش بملاحقة تلك المجموعات والقضاء عليها، أما في نيجيريا، فقد قُتل 37 شخصاً في هجوم شنّه مسلحون على مدرسة في ولاية بينو، تضم نازحين من شمال ووسط البلاد، في وقتٍ أقدم مسلحون على اختطاف 80 شخصاً، بينهم نساء وأطفال في ولاية زامفارا شمال غرب البلاد، وغالباً ما يحتفظ الخاطفون بضحاياهم لأشهر إذا لم يتم دفع فدية، كما يطالبون القرويين أيضا بدفع أتاوات للسماح لهم بالزراعة وحصاد محاصيلهم.
إن هذه الدول تحديداً تمتلك مجموعة ضخمة من الثروات الباطنية والمعادن النفيسة وأهمها الذهب واليورانيوم والنفط، ما جعلها مكمناً لأطماع فرنسا وغيرها من الدول الغربية التي استغلت التنوع القبلي والعشائري في مجتمعات تلك المنطقة، فساهمت في إضعاف سلطات دولها وجيوشها وقواها الأمنية بحيث يتم خلق دول عاجزة عن الاضطلاع بمهامها في إرساء حالة الأمن والحفاظ على حياة وممتلكات مواطنيها، كما تم استغلال انتشار الأمية بنسبة تصل إلى 80%، والطبيعة الديمغرافية المتمثلة في قلّة أعداد السكان بالمقارنة مع مساحات شاسعة من الأراضي، والتغيرات المناخية التي تجبر القبائل على الانتقال إلى أراضٍ جديدة، وما يرافق ذلك من صراعات فيما بينها على الأراضي الغنية الموارد الزراعية والحيوانية، فكل ذلك شكل بيئة خصبة للصراعات في ظل غياب السلطة وتمركزها في المدن دون بقية المناطق والأطراف ما شكل حالات تصل حد الانقسام والانفصال التام، وقد عززت تلك العوامل البيئة الخصبة لتشكيل حاضنة للإرهاب الذي فاق انتشاره وتمدده كل تصور، حيث برزت عدّة تنظيمات محلية ودولية وعلى رأسها “داعش – القاعدة” الإرهابيين، نشبت فيما بينها مجموعة من الصراعات والتناحرات رغم وحدة الإيديولوجيا، كما حدثت حالات من الانشقاق والانضمام وولادة تنظيمات تحت مسمياتٍ جديدة، واختفاء أخرى زادت من تعقيد وتشابك خارطة تلك التنظيمات، أما على صعيد الظروف الدولية لتعزيز تلك الحاضنة فقد كان آخرها فشل “داعش” الإرهابي في سورية والعراق نظراً لقوة الجيوش الوطنية وتلاحمها مع الشعب ضدّ التنظيم وخسارته لمصادر تمويله في منطقة الشرق الأوسط وبحثه عن مورد جديد، حيث كانت أفريقيا الخزان الأكبر له عالمياً عبر ثرواتها مواردها، إضافةً إلى الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والحرب الأوكرانية التي أوقفت الجهود الدولية في متابعة ومكافحة الإرهاب، وما رافقها من تسرّب ضخم للسلاح الغربي الذي يفترض أنه كان يرسل وبكميات جنونية إلى النظام الأوكراني، واستغلال التنظيمات للإنترنت وتعاونها في نقل خبرات الإرهاب وضم عناصر إلى صفوفها على مستوى العالم.
لقد كانت عقلية الاستعمار والهيمنة على الموارد الطبيعية، إضافةً إلى جني الأرباح الخيالية من تجارة المخدرات والاتجار بالبشر وتهريب البضائع والمواد الخام، تشكل قاسماً مشتركاً بين تلك التنظيمات، وهذا يعود لاختراق تلك التنظيمات من الاستخبارات الغربية كما شهدنا على مرّ التاريخ، إذ تجني تلك التنظيمات مليارات الدولارات يذهب أكثر من ثلثاها إلى الدول الغربية الاستعمارية وتجارها ومهربيها، وفي الوقت نفسه تحقق تلك الدول الانطباع أمام المجتمع الدولي بأن هذه دول الساحل الأفريقي عاجزة عن إدارة نفسها، وبحاجة لتواجد القواعد العسكرية الغربية، والتي أثبتت أنها لم تقم بأي دور إيجابي أمني أو عسكري، سوى إدارة الصراع لصالحها وزيادة الإرهاب وتمدده من منطقة إلى أخرى، مع عبثها بالاستقرار السياسي لأبعد الحدود منعاً لوصول أي قيادات قد تسهم في عقد المصالحات الداخلية بين القبائل، أو تحقيق أي نوع من التنمية.
وعلى الرغم من قساوة المشهد فإن دول الساحل الأفريقي الآن أدركت أن الحل لا يكون إلا عبر عملها الجاد على تقوية وتعاون جيوشها الوطنية لضبط حدودها وملاحقة وضرب تلك التنظيمات الإرهابية، بالتعاون مع بعض القوى الإقليمية والدول الصديقة، إضافةً إلى التعاون الاستخباري وتبادل المعلومات سواءً على مستوى المنطقة أو العالم، مع قطع الصلة بشكلٍ كامل مع القوى الغربية والتخلص من قواعدها العسكرية، وبالفعل وصلت بلدان المنطقة مؤخراً إلى مرحلة الجيوش القادرة على تنفيذ العمليات وضرب مئات الإرهابيين من خلال قطع أشواط ضمن استراتيجية “الدفاع الذاتي” وتشكيل مجموعات للدفاع الذاتي تعمل بالتعاون مع الجيوش الوطنية، فيما يشبه ما انتهجته الجزائر في تسعينيات القرن الماضي للقضاء على الإرهاب، وعلى الرغم من أن تلك الجيوش ليست كافية للقضاء على الإرهاب لكنها في الوقت نفسه أثبتت نجاعتها كحلٍ، فبالمقارنة بين دول تلك المنطقة نجد أن النيجر بقيت تحتفظ بأكبر قاعدة للقوات الفرنسية على أراضيها ومع ذلك تشهد الحجم الأكبر لتنامي الإرهاب واستفحال تنظيماته، كما شهدت المنطقة مجموعة من المبادرات لإسكات البنادق ورأب صدع الخلافات الداخلية والقبلية وقد حققت نجاحاً لافتاً وبشهادة أممية.
ومع كل ما تم ذكره فإن التنظيمات الإرهابية في الساحل الأفريقي وعلى الرغم من التحولات في المشهد الدولي والداخلي التي ستضعف وجودها، فإن كلمة سر بقاءها ووجودها هي “الفقر”، فهي الآن تستغل ثراها الفاحش لتجنيد السكان المجبرين على الانضمام إليها في ظل فقدان التنمية الاقتصادية في بلاد المنطقة، وبالتالي الحل الناجع في المرحلة الحالية والمكمل للحل الأمني والعسكري، هو تعزيز مشروعات التنمية الاقتصادية ومحاربة الفقر وتوزيع الثروات بصورة عادلة، وحسن استثمارها بخبرات محلية وبالتعاون مع الدول الصديقة، وانتهاج سياسة دقيقة لمكافحة الفساد الذي بدأ ينتقل كداءٍ حتى للمستثمرين الذين يدخلون المنطقة.