دراساتصحيفة البعث

ويكيليكس مجدداً.. لماذا تعتمد واشنطن هذا الأسلوب؟

طلال ياسر الزعبي 

ليست هي المرّة الأولى التي يتمّ فيها تسريب وثائق لوزارة الخارجية أو وزارة الدفاع الأمريكيتين، أو حتى وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “سي آي إيه”، ولعلّ العادة درجت لدى الإدارات الأمريكية المتعاقبة أن تعمد إلى استخدام أساليب غير تقليدية لصرف انتباه الجمهور عن أمور معيّنة لا ينبغي له الاطّلاع عليها، أو لصناعة سحابة من الدخان حول مسألة معيّنة تصرف الانتباه بطبيعة الحال عن مشكلة أو عجز معيّن في جهة أخرى، بحيث لا يتمكّن المتلقي من الاطّلاع على حقيقة الوضع في الداخل الأمريكي، لأن الرأي العام تمّ توجيهه باتجاه آخر بعيد تماماً عن المشهد الحالي.

وسابقاً طبعاً تمّ تسريب مئات الآلاف من الوثائق عبر موقع ويكيليكس فيما عُدّ أخطر الخروق الأمنية في عام 2013، حيث شملت التسريبات ما يزيد على 700 ألف وثيقة ومقطع فيديو وبرقية دبلوماسية.

ولكن الحالة الطبيعية طبعاً تقتضي أن تسريب هذا العدد الهائل من الوثائق لا يمكن أن يتمّ عبر جهد فردي، وبالتالي تبقى فرضية التسريب المتعمّد هي الأساس في الحكم على هذه الوثائق، حيث لا يمكن أن تهبط هذه الأعداد الهائلة من الوثائق من السماء مرّة واحدة، على مدير موقع إلكتروني أو إعلامي أو غير ذلك، دون أن يكون هناك تعاون وثيق بينه وبين شخص متنفّذ ينتمي إلى الجهة المستهدفة.

وأيّاً يكن من أمر هذه التسريبات فإنها تؤكّد مرّة أخرى أن أسهل شيء لدى الدولة التي تدّعي أنها تملك نظام معلوماتٍ رصيناً ومتكاملاً، هو إعلان العجز عن السيطرة على أمن المعلومات بهذه الطريقة المثيرة للاستغراب، حيث تضطرّ أحياناً إلى استخدام أكاذيب رخيصة لتمرير معلومة تؤكد من خلالها حدوث خرق أمني كبير، فهل تمّ فعلاً تسريب مثل هذه المعلومات بشكل عفوي، أم أن هناك من أراد صرف انتباه العالم كله وليس العدو المفترض عن هزيمة معيّنة تعرّضت لها السياسة الأمريكية في مكان ما، ومن خلال ذلك تحاول الخروج من مأزق وضعت نفسها فيه.

ومعروف أن الإدارة الأمريكية عجزت حتى الآن عن تحقيق أيّ نوع من الانتصار على روسيا في الحرب الدائرة بينهما عبر أوكرانيا بالوكالة، وبالتالي يترتّب عليها في نهاية المطاف البحث عن كبش فداء تحمّله مسؤولية الهزيمة في أوكرانيا، وقد بدأ ذلك بالفعل من خلال تحميل رئيس النظام الأوكراني فلاديمير زيلنسكي مسؤولية الأخطاء القاتلة التي أدّت إلى هزيمة نكراء للجيش الأوكراني في أكثر من مكان، ومن هنا ربما جاء التسريب حول حالة الجيش الأوكراني للتمهيد مسبّقاً لأيّ هزيمة متوقعة له، وادّعت نائبة المتحدث باسم البنتاغون سابرينا سينغ، في بيان أنها “على علم بما تمّ نشره على مواقع التواصل الاجتماعي، وتقوم وزارتها بدراسة الأمر”.

هذا مع العلم أن هناك جهداً واضحاً لتضليل المتلقّي، حيث تأتي مجموعة من الوثائق لتتحدّث بشكل متناقض عن الأمر نفسه، فالجيش الأوكراني يمكن أن يتعرّض للهزيمة في إحدى الوثائق، بينما يمتلك 12 لواء قيد التشكيل، يبدو أن تسعة منها تمّ تدريبها وتزويدها بالعتاد من الولايات المتحدة وحلفاء “الناتو” الآخرين، في وثيقة أخرى، وهذا يشير إلى أن الجيش بالفعل يتمتع بالتنظيم والقوة، وتتمتع المنظومة التي تشرف على تدريبه بميزات تفضيلية أيضاً على غيرها من المنظومات المشابهة.

وربما كان الحديث عن أن وزير الدفاع لويد أوستن، أمر القوات الجوية بمنع تحليق الطيران الأمريكي قرب أجواء القرم الروسية، والبقاء على مسافة 80 كم عنها، ممنهجاً في هذه الوثائق وخاصة بعد حادثة المسيّرة الأمريكية التي أسقطها الجيش الروسي فوق البحر الأسود.

ولكن المثير طبعاً أن تضع واشنطن حليفتها كوريا الجنوبية في موقف محرج، من خلال الإشارة إلى أن إحدى الوثائق تؤكد تجسّس واشنطن على سيؤول، وهذا سيؤكّد مدى استهزاء واشنطن بحلفائها وتلاعبها الخبيث بحليفها الآسيوي الرئيس، وسيكون دليلاً على مدى ضعف الإجراءات المتبعة في مكتب الرئيس الكوري الجنوبي، لتفادي محاولات التجسّس.

وشدّد زعيم الحزب الحاكم كيم غي-هيون، على ضرورة إجراء تحقيق دقيق، للكشف عن الجهة المستفيدة في حال ظهور هذه المعلومات إلى الواجهة، ولم يستبعد احتمال تورّط دولة ثالثة، فإن الردّ على هذه القضية بعد فحص دقيق للتفاصيل سيتماشى مع المصلحة الوطنية.

ولكن الإصرار الأمريكي على إعطاء هذه المسألة مزيداً من الاهتمام والعناية، مع العلم المسبّق أنه يستحيل تسريب هذا الكمّ من الوثائق دون أن يكون هناك مسؤول كبير ضالع في ذلك، ربما يؤكّد من جهة ثانية أن افتعال هذه القضية ربما كانت غايته التضليل وصرف الانتباه ليس إلا، أو إيصال معلومة واحدة مفبركة عبر مجموعة من التسريبات الصحيحة أو الدقيقة لإكسابها نوعاً من الصدقية ولإيصال رسالة بطريقة غير مباشرة إلى خصوم الولايات المتحدة في العالم، أو مجموعة رسائل، ربما تصبّ مجتمعة في خانة أن الولايات المتحدة لا تزال قادرة إلى الآن على السيطرة على الوضع، وأنها لا تزال تمتلك زمام المبادرة، ومن هنا هي تملك قدرة هائلة على التجسّس على الدول وليس فقط الدول التي تضعها في خانة الحلفاء كما ورد في الوثائق، وهذا يمكن أن يضفي على الولايات الأمريكية مزيداً من الهيبة والرهبة بين دول العالم.

فحديث صحيفة “واشنطن بوست” عن مسؤولين أمريكيين أن هذه الوثائق جرى تزوير بعضها، لكن معظمها أصلي ويتوافق مع تقارير لوكالة الاستخبارات المركزية متداولة في البيت الأبيض والبنتاغون ووزارة الخارجية، يوحي بأن هناك من يدفع باتجاه دفع المتلقّي إلى تصديق ما جاء فيها، حتى لو كان ذلك بالفعل مجموعة أكاذيب من صناعة المخابرات الأمريكية.

وربما يكون مطلوباً تسريب مجموعة من المعلومات في كل الاتجاهات حتى لا يتسنّى لأحد انتقاد هذه الوثائق التي سيضطرّ لعدّها مهنية حتى لو كانت خلاف ذلك، وذلك لأنها لم تميّز بين الحليف والعدو، وتناولت الطرفين بالحماسة ذاتها، أو يكون ذلك مقدّمة لاتهام أحد الخصوم السياسيين للإدارة الديمقراطية بالقيام بمثل هذا العمل، أو اتهام روسيا مثلاً حيث اتهمتها سابقاً بالتدخل في الانتخابات الأمريكية.

وربما كانت الوثائق المتعلقة بكوريا الجنوبية تعمل على ابتزاز سيؤول وإجبارها على تقديم قذائف المدفعية الأمريكية لاستخدامها في أوكرانيا، في انتهاك لسياستها بشأن تقديم المساعدات القاتلة، وتم إضافة حديث التجسّس إليها للتعمية فقط.

وباختصار شديد، هناك ما لا يقلّ عن 100 وثيقة قيل إنها سرية تم تسريبها بشكل ممنهج، وتتناول فيما تتناول خطط الولايات المتحدة والناتو لدعم كييف، وحالة الجيش الأوكراني، وتجسّس واشنطن على مسؤولين في كوريا الجنوبية، للضغط باتجاه إجبار الحليف الآسيوي على المساعدة في إمداد أوكرانيا بالأسلحة، وأخرى تتحدّث عن تجسّس واشنطن على فلاديمير زيلينسكي، وأن الأخير لم يُفاجأ بهذا الأمر ووصفه بالمتوقع، بينما سادت خيبة أمل كبيرة في أوساط المسؤولين الأوكرانيين، عقب تلقّيهم هذه الأنباء.

وقد شكّك محللون وخبراء في صحّة الوثائق المسرّبة، معتبرين أنها محاولة أمريكية للتضليل، وخاصة أنها احتوت على معلومات خاطئة بشأن تمركز القوات الروسية، كما أنها تشكّك في أن الهجوم المضاد الأوكراني المرتقب هذا الربيع سيتمكّن من تحقيق أهدافه المحدّدة.

وفي المحصلة، التسريبات ربما تكون امتداداً لتاريخ طويل من التضليل تمارسه الإدارات الأمريكية المتعاقبة عبر هذه السياسة، حيث أكد الضابط السابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، فيليب جيرالدي، أن من سرّب وثائق البنتاغون السرية، قد يكون مسؤولاً في الإدارة الأمريكية يعارض سياسة الرئيس جو بايدن.

وقال جيرالدي: “من المرجّح أن يكون التسريب عمل شخص واحد تتعارض آراؤه تماماً مع السياسة الحالية للسلطات الأمريكية في مجال الأمن القومي”.

ومن هنا، فإن الأغلب أن التسريبات لها علاقة وثيقة بمجموعة من الرسائل تودّ الحكومة الأمريكية، أو الدولة العميقة إيصالها، تفيد بأن واشنطن لا تزال تمتلك زمام المبادرة، وأنها تستطيع في لحظات أن تتلاعب بالرأي العام العالمي وتشغله بمجموعة من المشاغبات التي تطلقها تحت عنوان تسريبات، دون أن يكون لدى الطرف الآخر القدرة على تكذيب هذه الروايات أو تصديقها، لأنها باختصار تسيطر على الشق المتعلّق منها بحلفائها، وتستطيع فرض ما تريد في هذا الإطار، كما هو الحال مع أوكرانيا وكوريا الجنوبية، وهذا ما يمكّنها من تمرير بعض الأكاذيب حول أعدائها، لأنها عبرت من خلال مجموعة من الأخبار الصحيحة.