ناس ومطارح.. زكريا الصافي: أول الحب، اعذبه يا دمشق
تمام بركات
وسط الردهة الفارهة، لواحد من أشهر فنادق دبي، وضعت زهرية ضخمة، ترتفع لمترين ونصف المتر، من القاعدة، حتى الرأس، يوحي منظرها البديع، بالموزاييك الدمشقي المبهر الذي يكسوها، وكأنها “سفير” فوق العادة، يميل بالسلام على الجميع معاً، وواحداً واحداً، بنفس الوقت، ويمكن عند الإصغاء جيداً، سماع صوت هذا السلام الرائق، بلهجته السورية الفريدة.
المتأملون لخطوط الجمال الخالص، التي تتقاطع فوق محيا تلك الزهرية الأكبر في العالم، مُشكلة العديد من الأشكال الفنية البديعة، والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً بثقافة الفنان الصانع، بتراثه وهويته وعاطفته أيضاً، وبعد الدهشة التي ترتدي ملامحهم، عند معرفتهم بأنها “صناعة يدوية”، يذهبون نحو البطاقة التعريفية للعمل، وعليها يقرؤون “زكريا محمود الصافي-سورية”.
بعضهم يطوف بنظراته على الموجودين في المكان، عله يهتدي إلى “زكريا”، وحين يعجز عن معرفة صاحب هذا العمل الفني المبهر، يسأل عنه، لكن حتى الجواب الصحيح، لن يكون كافياً لمقابلته ومعرفته، ذاك أن “زكريا” غير موجود في المكان، ليس أنه كان منذ قليل، ثم غاب لشأن يعنيه ويعود، وليس الأمر وكأنه سيعود بعد قليل، أو بعد كثير، فالرجل لديه بشراه الخاصة، التي اخبرته مذ لمع الضوء على جبينه، بأن لا مكاناً تأنس في روحه ويرتاح فيه قلبه، خارج “الشام” فقرر ألا يبارحها أبداً.
وفي الوقت الذي تسيل فيه لعاب نظرات الناس ومن مختلف جنسيات العالم، على تلك الزهرية الممشوقة، تسيل أصابع زكريا في حي “الميدان” الدمشقي، على عمل فني جديد، ربما قد بدأه منذ عدة أعوام، ولمّا ينتهي بعد، أو لعله يتلمس بوجدانه أيضاً، التفاصيل التي سيولمها من قلبه، لعمل جديد، لكن الأكيد أن “زكريا” لم يغير خط سير يومياته، التي يحياها منذ 62 عاماً، وبشكل أكثر دقة، منذ 50 عاماً، عندما خرج في نزهة صيفية للعمل، ذات طفولة، بقصد مساعدة الأهل بمصروف البيت، وتعلق قلبه بأدوات حرفة “الموزاييك” التي يُعتبر فيها “شيخ الكار” وبالرغم من تلقيه عدة دعوات للسفر، مع كل التسهيلات التي تُمنح للمبدعين، إلا أن البطاقة الذهبية الوحيدة، التي تغريه وتداعب خياله، تلك التي يقطعها يومياً من ضحكات أبنائه ودعاء أهله وسلام جيرانه، في “بيت سحم” حيث يقيم، أو في “الميدان” حيث تشغل ورشته، واحدة من الغرف الفسيحة، لبيت عربي واسع، وجد فيه روحاً تضج بهاء، بين مجموعة من الأصدقاء، الذين يشغلون بقية المكان، ويزاولون حرفهم اليدوية الخاصة.
عام 2011، وبينما كان الناس في منطقة الغوطة، يحاولون النجاة بأرواحهم، من الموت وجحيم القذائف والمفخخات، كان زكريا يحاول أن يجمع ما أمكن من عمره الموزع في المكان، بين ورشة العمل والبيت، حيث اعتاد أن يمضي كل وقته، تارة بين أهله وأسرته، وتارات بين أخشابه و”مشغولاته” التي صرف ذهب العمر في صياغتها، لكن النار كانت أسرع من لهفته ويديه، وكل جنى العمر الذي كان موزعاً في الورشة كأخشاب وأدوات وأعمال فنية، صار طعاماً لألسنة اللهب المتطاولة فوق حزنه وأمانيه، وهكذا فقد الرجل الحياة التي عرفها طوال حياته، وصار لزاما عليه البدء من جديد، وفي مكان آخر ومختلف، وهكذا نشأت علاقته مع حي “الميدان” الذي كان يزوره للتبضع أو لزيارة صديق، ثم صار عالمه الجديد الرحب.
في مطلع كل صباح، وقبل أن تُرخي الشمس جدائل أشعتها الذهبية، يكون زكريا قد وصل الحي الدمشقي الشهير، ومن بوابة الميدان تبدأ رحلته اليومية، مع عالم بديع من الألوان والأصوات والروائح، التي تشكل مجتمعة نوتة موسيقية لها طعم ورائحة، تمنحه طاقة عالية، وترفع من مزاجه المبتسم دائماً، يلقي السلام على الجميع، الناس والبيوت والياسمين، وعليهم يرد السلام، ومع أغنية لـ “وديع الصافي” رفيقه القديم واليومي، يبدأ زكريا العمل، إبريق شاي على النار، وعما قليل سيصل الصحب والأصدقاء، فماذا يريد الإنسان أكثر من ذلك؟ ثم كيف له أن يجد كل هذا، سواء لساعة واحدة، مرافقاً عمله الفني المعروض في الردهة الفارهة لأحد أشهر فنادق دبي، أم لبقية العمر؟ يسأل زكريا، ويجيب