في الذكرى 77 للجلاء.. قصة الكفاح ضد الاحتلال الفرنسي
قسم الدراسات
بعد أكثر من ربع قرن على دخول الجيوش الفرنسية المحتلة الأراضي السورية، خاض الشعب السوري العديد من الثورات المسلحة، بدءاً من ثورة الشيخ صالح العلي، انتقالاً لثورة الزعيم إبراهيم هنانو، وصولاً إلى الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش، وغيرها من ثورات عديدة، ومن ثم انتقل النضال في سبيل الاستقلال إلى مرحلة النضال السياسي.
وإلى جانب العمل المقاوم، كان للعمل السياسي الدور الأساسي في تحقيق الجلاء، وقام بهذا العمل عدد من كبار السياسيين السوريين على رأسهم فارس الخوري الذي ترأس الوفد السوري إلى مجلس الأمن، وكان له دور كبير بتسريع خروج الفرنسيين من البلاد.
اتجهت سورية إلى مجلس الأمن تطالب بانسحاب الجيوش البريطانية والفرنسية عن أراضيها، ولم تهدأ عن طلبها هذا حتى تم جلاء الجيوش الأجنبية عن سورية، في 17 نيسان 1946، وصار هذا اليوم، يوم الجلاء، عيداً قومياً لسورية.
وفي 17 نيسان 1946، أقيم عيد الجلاء الأول في سورية بمشاركة عربية واسعة، ورفع شكري القوتلي علم البلاد فوق سماء دمشق، قائلاً : “لن يرفع أي عَلم فوق هذه الراية إلّا علم الوحدة العربية”. وألقى القوتلي في هذه المناسبة خطاباً وصف بالتاريخي، قال فيه: “بني وطني… هذا يوم تشرق فيه شمس الحرية الساطعة على وطنكم، فلا يخفق فيه إلا علمكم، ولا تعلو فيه إلا رايتكم. هذا يوم الحق تدوي فيه كلمته، ويوم الاستقلال تتجلى عزته، يوم يرى الباطل فيه كيف تدول دولته، وكيف تضمحل جولته. هذا يوم النصر العظيم والفتح المبين”.
كان وقع الاحتلال الفرنسي ثقيلاً على السوريين الذين قاوموا السيطرة العثمانية للتمتع بالحرية، خصوصاً أن الاستعمار الفرنسي ترافق مع جملة من الإجراءات الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي اتسمت بالقسوة الشديدة، لخنق روح الثورة والاستقلال لدى الشعب، بجانب عملها على امتصاص خيرات البلاد، ونهب ثرواتها.
ورغم توقف الثورات، تواصل نضال الشعب السوري سياسيا من أجل الاستقلال، حيث تشكلت الجمعية التأسيسية، وبدأت أولى جلساتها في 1928، وترأسها هاشم الأتاسي، حيث اقترحت الدستور الذي صاغته لجنة يرأسها المناضل إبراهيم هنانو، وتألف الدستور من 115 مادة، أبرزها مادة اعتبرت سورية دولة واحدة غير قابلة للتجزئة، وأن نظام الحكم جمهوري برلماني.
رفضت فرنسا بنود الدستور، وساومت على إلغائه، فيما رفضت الجمعية التأسيسية إلغاء أي مادة، ما دفع بسلطات الاحتلال إلى تعطيل الجمعية. وفي 1930، أجرت فرنسا محاولة ثانية للوصول إلى تسوية مع القوى الوطنية السورية، بالاعلان عن دستور جديد يتألف من نفس مواد الدستور القديم، مضافاً إليه مادة تقضي بوقف تنفيذ المواد التي تمس صلاحيات الانتداب، ما أدى بالشعب السوري إلى الانتفاض مجدداً، وعمت المظاهرات والإضرابات مختلف أنحاء البلاد.
بعدها بسنوات، عندما نجح الملك فيصل الأول في عقد معاهدة مع بريطانيا منحت العراق بعض الحقوق في الاستقلال، ما ترك أثراً كبيراً في سورية، وأصبح المطلب الشعبي للحركة الوطنية عقد معاهدة مع فرنسا على غرار المعاهدة العراقية البريطانية، وبعد مفاوضات استمرت 6 شهور، توصل الوفد السوري المفاوض مع الحكومة الفرنسية، إلى عقد المعاهدة المعروفة بمعاهدة عام 1936.
ورغم أن المعاهدة لقيت اعتراضات شتى، بدعوى أنها تعطي صفة شرعية للانتداب الفرنسي، إلا أنه على إثر المعاهدة انعقدت في سورية انتخابات لتشكيل مجلس نيابي سوري، فازت الكتلة الوطنية بأغلبية مقاعده، بعد هزيمة أعوان الاحتلال، ما أثار حفيظة فرنسا، ورفض الموظفون الفرنسيون تسليم سلطاتهم للحكومة المنتخبة، وتردت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، إلى أن حلت السلطات الفرنسية البرلمان السوري المنتخب، وعاد الاستعمار من جديد.
كانت الحرب العالمية الثانية قد ألقت بظلالها على العالم آنذاك، ودخلت قوات الحلفاء في حرب مع قوات المحور، وشهدت سورية صراعا بين القوات الفرنسية التي كانت تابعة لحكومة فيشي (الموالية للألمان)، وقوات حكومة الجنرال ديغول (المتحالفة مع الحلفاء)، حيث تمكنت القوات المتحالفة من إخراج قوات فيشي من سورية في 1941، وعلى إثر ذلك أذاع (ديغول) بيانه الشهير الذي وعد فيه سورية ولبنان بالاستقلال وحق تقرير المصير.
وبناء على ذلك، أجريت عام 1942 انتخابات نيابية فازت فيها الكتلة الوطنية، وفي 1943 انتخب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية السورية، وتألفت حكومة جديدة برئاسة سعد الله الجابري.
ومع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها، حاولت فرنسا أن تعيد سيطرتها الاستعمارية على سورية، فاندلعت الاضطرابات في كافة أنحاء سورية، وواجهت فرنسا الاحتجاجات بقوة مفرطة، مرتكبة المجازر ضد المدنيين. ورغم توالي الأحداث، إلا أن العمل المقاوم جاء تتويجا لنضال طويل مليء بالتضحيات، خرج آخر جندي أجنبي من الأراضي السورية في 17 أبريل 1946.
تؤكد سيرورة الأحداث أن جلاء المستعمر الفرنسي عام 1946 كان نتيجة حتمية لنضال طويل وشاق بدأه السوريون منذ أن حاول هذا المستعمر فرض شروطه على سورية، ولم تتوقف التضحيات واستمر النضال عبر ثورات قادها مناضلون أوفياء لبلدهم، وحتى تحقيق الجلاء تواصل النضال للحفاظ على الاستقلال الوطني بصور وأساليب مختلفة في تأكيد على رفض السوريين للاستعمار ومشاريعه ليتحقق ذلك بعد تضحيات كبيرة أكد من خلالها الشعب السوري وقوفه صفاً واحداً وفي خندق واحد لمواجهة صلف الاستعمار وجبروته ليثبت أنه ما من مكان للمستعمر على هذه الأرض الطاهرة.
لم تكن معركة البناء بعد تحقيق الجلاء أقل ضراوة من معركة الاستقلال، حيث عمل شعبنا على بناء دولة قوية قادرة على مواجهة التحديات والعقبات، ولكن الظروف السياسية والموءامرات التي ظلت تستهدف سورية أعاقت الوصول إلى ذلك فكانت ثورة الثامن من آذار عام 1963 نقطة التحول في مسار التطور في وطننا واضعة الأسس لبناء سورية الحديثة لتقوم بعدها الحركة التصحيحية التي قادها القائد المؤسس حافظ الأسد في السادس عشر من تشرين الثاني عام 1970 فتصحح مسار الثورة وتعيدها إلى جماهيرها وتجسد أهدافها حقيقة على أرض الواقع لتتقدم سورية في جميع الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتصبح طليعة لحركة التحرر الوطني العربية وأنموذجا يحتذى في النهضة والبناء والمنعة .
ومنذ الجلاء كرست سورية نفسها ودورها كرقم صعب في المنطقة والعالم لتصبح أبرز مقومات أمن المنطقة واستقرارها والداعمة الأولى لكل حركات التحرر والمقاومة فيها وهو ما جعلها هدفاً للتآمر من قبل القوى الاستعمارية والصهيونية والرجعية في المنطقة والذي نشهد منذ سنوات وحتى الآن أخطر مراحله من خلال العدوان الإرهابي الذي تشنه القوى الظلامية والتكفيرية على الشعب السوري مستخدمة أبشع أساليب القتل والتخريب بدعم مفضوح من الاستعمار القديم الجديد وأدواته في المنطقة.
وبين تضحيات أبطال الاستقلال وبطولات رجال الجيش العربي السوري تمر الذكرى 77 لجلاء آخر جندي فرنسي من الأرض السورية، هذا العام، لتؤكد إصرار الشعب السوري على تمسكه بخيار الدفاع عن الوطن ودحر مؤامرات الأعداء ومخططاتهم الاستعمارية مهما تبدلت أشكالهم وتغيرت أدواتهم وتلونت شعاراتهم ولتثبت أن طريق الاستقلال والسيادة والخلاص من الاستعمار لا بد أن يعبد بدماء الشهداء.