“ازالة الدولرة”.. نمط جيوسياسي نقدي جديد
عناية ناصر
هناك اتجاه متسارع في الآونة الأخيرة نحو “إزالة الدولرة” في الأسواق الناشئة، فوفقاً لتقارير إعلامية، أعلنت وزارة الخارجية الهندية في الأول من نيسان الجاري، أن الهند وماليزيا اتفقتا على تسوية التعاملات التجارة بالروبية الهندية. وفي وقت سابق، كانت الهند وروسيا تضغطان أيضاً من أجل آلية تسوية بالعملة المحلية لتجاوز الدولار الأمريكي. وفي ذات الإطار، أعلنت البرازيل في 29 آذار الماضي التوصل إلى اتفاق مع الصين بعدم استخدام الدولار كعملة وسيطة، بل وتسوية التعاملات التجارية بالعملات المحلية.
يدل هذا على أن دول “البريكس” بدأت بشكل كبير، باستثناء جنوب إفريقيا، باستخدام العملة المحلية كبديل للتسوية بالدولار في التعاملات التجارية. وفي ذات السياق، صرح وزير العلاقات الدولية والتعاون بجنوب إفريقيا، ناليدي باندور، في 18 كانون الثاني الماضي، وبشكل علني، أن البلاد تدرس كيف يمكن لدول “البريكس” المساعدة في إنشاء نظام تداول عملات أكثر عدلاً لتحدي هيمنة الدولار.
من الواضح أن “نزع الدولرة” في التسوية التجارية التي روجت لها دول “البريكس”، والتي تعد القوة الرئيسية في الأسواق الناشئة، قد أصبح اتجاهاً. في 28 آذار الماضي، ناقش اجتماع وزراء مالية ومحافظي البنوك المركزية في رابطة دول جنوب شرق آسيا في إندونيسيا الحد من الاعتماد على الدولار الأمريكي واليورو والجنيه الإسترليني في المعاملات المالية، والتحول نحو التسوية بالعملة المحلية. ومن أجل ذلك ستعمل “الآسيان” على توسيع ونشر خطة تداول العملة المحلية، وتستعد البنوك الإندونيسية للتخلص التدريجي من بطاقات الإئتمان “فيزا كارد “، و”ماستر كار”، وإطلاق نظام الدفع المحلي الخاص بها.
وفي سياق متصل، تحاول دول الشرق الأوسط، مثل الإمارات العربية المتحدة، أيضاً تنويع عملة التسوية في تجارة النفط، ويمكن اعتبار كل ذلك على أنه اتجاه جديد في توطين العملات تروج له الأسواق الناشئة. ووفقاً للباحثين، فإن النظام النقدي الدولي يتطور من نظام عملة واحدة يهيمن عليه الدولار الأمريكي إلى نظام أكثر تنوعاً جغرافياً ومتعدد العملات، في حين أن العملة المفردة أكثر ملاءمة للتجارة الخارجية، فإن التغييرات في المشهد الجيوسياسي وزيادة المخاطر الجيوسياسية جعلت قضايا الكفاءة والتكلفة لا تذكر. ونتيجة لذلك، أصبح الدافع وراء أنظمة التسوية التجارية المستقلة والمتنوعة في مختلف البلدان أكثر بروزاً.
على الجانب الأمريكي، كان بعض الأفراد يفكرون في “إزالة الدولرة”، ففي 30 آذار غرد إيلون ماسك قائلاً: “إن هذه قضية خطيرة. سياسة الولايات المتحدة شديدة القسوة، ما جعل الدول ترغب في التخلي عن الدولار”. وأضاف قائلاً: “جنباً إلى جنب مع الإنفاق الحكومي الزائد الذي يجبر الدول الأخرى على استيعاب جزء كبير من التضخم لدينا”. ودعا جيم أونيل، كبير الاقتصاديين في الشركة المصرفية “غولدمان ساك”، ومخترع مصطلح “البريكس”، مجموعة البريكس مؤخراً إلى توسيع نطاقها وتحدي هيمنة الدولار، حيث يعتقد أن هيمنة الدولار سوف تزعزع استقرار السياسات النقدية للبلدان الأخرى.
في الواقع، كانت التغييرات الجذرية في السياسة النقدية الأمريكية في السنوات الأخيرة ، بقيادة بنك الاحتياطي الفيدرالي، عاملاً مهماً في العديد من البلدان التي تبتعد عن الدولار، حيث شرع بنك الاحتياطي الفيدرالي في أعقاب الأزمة المالية لعام 2008، في برنامج التسهيل الكمي، وتسبب في تقلص قيمة العملة المكتسبة من الفوائض التجارية في العديد من البلدان الناشئة. كما أدت التغييرات الناجمة عن جائحة فيروس كورونا في سياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى زيادة عدم الاستقرار، الأمر الذي تسبب في تقلب سعر صرف الدولار على نطاق واسع، وتشكيل مخاطر سياسية كبيرة على استقرار التجارة والاستثمار عبر العديد من البلدان.
إن تداعيات مخاطر السياسة هذه بعيدة المدى، ولا تتسبب فقط في تقلبات السوق في البلدان المتقدمة، بل و لها أيضاً تأثير أكبر على الأسواق الناشئة. وبينما يصارع الاقتصاد الأمريكي الركود التضخمي، الذي يتميز بارتفاع معدلات التضخم وارتفاع أسعار الفائدة، تواجه دول الأسواق الناشئة ضغوطاً مزدوجة من التضخم وارتفاع تكاليف الاقتراض المقومة بالدولار الأمريكي. وللتخفيف من مخاطر تقلبات الدولار، تحول الاقتصاد العالمي بشكل متزايد إلى أصول الملاذ الآمن مثل الذهب والأصول الرقمية. وبالنسبة لبلدان “البريكس”، تنطوي الخطوة الأولى نحو تقليل اعتمادها على الدولار على تحمل تكاليف تقلب العملة. وفي الوقت نفسه، أدت الأزمة المصرفية المستمرة في الولايات المتحدة إلى تفاقم المخاوف بشأن قيمة الأصول الأمريكية والدولار، مما خلق فرصاً للدول الأخرى لتقليل اعتمادها على العملة.
كما ويعد فرض العقوبات المالية من قبل أوروبا والولايات المتحدة بعد الصراع بين روسيا وأوكرانيا عاملاً حاسماً آخر ساهم في التحول العالمي بعيداً عن الدولار. لم تجمد هذه العقوبات الأصول المالية لروسيا فحسب، بل دفعت أيضاً العديد من البلدان خارج منطقة الصراع إلى إدراك مخاطر النظام النقدي الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، مما أدى إلى تزايد عدم اليقين في التجارة الدولية. ونتيجة لذلك، أصبحت العديد من البلدان غير المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأوروبا والولايات المتحدة مترددة في مواصلة التداول من خلال الدولار. ووفقاً للباحثين والمحللين الاقتصاديين، فإن هذه العقوبات ستؤثر في النهاية على استقلالية النظام المالي الدولي الحالي الذي يهيمن عليه الدولار والتسوية التجارية وأنظمة الدفع والمقاصة. وفي بيئة مسيّسة بشكل متزايد، سيصبح النظام المالي الدولي الموجه نحو القيم أكثر اعتماداً على التغييرات في الأنماط الجيوسياسية، وينعكس هذا الاتجاه في المحاولات المختلفة لتسوية العملة، والتي تعد إشارة إلى أن نظام العملة يسرع من إضفاء الطابع الجيوسياسي عليه. وعلى المدى الطويل، فإن استخدام الولايات المتحدة للعقوبات المالية والأدوات الأخرى لممارسة نفوذها قد يؤدي في النهاية إلى تآكل المكانة الدولية للدولار كعملة مهيمنة.
وعلى الرغم من جهود البلدان “لإزالة الدولار”، فإن استبدال الدولار الأمريكي بعملات جغرافية يعد عملية طويلة، ويتطلب إنشاء وتشغيل نظام تسوية التجارة، جنباً إلى جنب مع المؤشرات الرئيسية مثل أسعار الصرف والأسعار، مزيداً من الاستكشاف من قبل السوق. تتمتع العملات الإقليمية، مثل الرنمينبي، باستقرار وقبول أقل في السوق من الدولار الأمريكي، حيث تكون تكاليف التداول ومخاطر التسوية أعلى. لذلك، لا يمكن لأي عملة جغرافية تحدي وضع الدولار الأمريكي على المدى القصير. إن محاولة دول الأسواق الناشئة، ولا سيما دول “البريكس”، لإنشاء نظام تجاري مستقل، ستشكل تهديداً طويل الأجل لوضع الدولار، وقد يكون هذا التآكل تدريجياً، فكلما قلل عدد أكبر من الدول من اعتمادها على الدولار، سيضعف الاقتصاد الأمريكي تدريجياً مع تراجع وضع الدولار.
يمكن القول في نهاية المطاف أنه كان هناك اتجاه متزايد بين البلدان والمناطق مثل الهند والبرازيل ورابطة دول جنوب شرق آسيا “لإزالة الدولار”، ومن المرجح أن يصبح هذا الاتجاه أكثر وضوحاً مع استمرار تصاعد المشاكل مع الدولار الأمريكي. وفي حين أنه قد لا يكون من الممكن استبدال الدولار على المدى القصير، إلا أن تأثير الدول التي تقلل من اعتمادها عليه سيصبح مهماً بشكل متزايد، مما سيؤدي في النهاية إلى نمط جيوسياسي نقدي عالمي جديد.