الولايات المتحدة والحنين إلى عالم أحادي القطب
عناية ناصر
طوال أكثر من 30 عاماً على نهاية الحرب الباردة، بقي المجتمع البشري عالقاً في الهيمنة أحادية القطب للولايات المتحدة، وهي حالة غير طبيعية بأي حال من الأحوال، ومع ذلك فإن واشنطن مدمنة عليها وترغب في جعلها قاعدة دائمة.
وعندما يبدأ عدد متزايد من البلدان في متابعة التعديلات الجديدة والجيدة لهذا النظام العالمي، لا يمكن للولايات المتحدة أن تكبت غضبها وأن تظل هادئة، حيث صُدمت من موجة الزيارات المستمرة للزعماء الأوروبيين إلى الصين، ومطالبة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن “الاستقلال الاستراتيجي”، ودور الصين المساهم كجهة بناء سلام في الشرق الأوسط. وبالكاد يستطيع بعض المراقبين الأمريكيين ووسائل الإعلام إخفاء قلقهم، حيث نشرت قناة ” فوكس نيوز” خبراً بعنوان “المستقبل هو الآن: الصين وروسيا تعودان إلى عالم ما قبل عام 1989، وتتحديان بشكل أساسي الغرب بقيادة الولايات المتحدة”. وجاء في عنوان في صحيفة “واشنطن بوست” أن “النظام العالمي الجديد للصين يتشكل”، حيث أكد المقال أن مبادرات الصين الجديدة حول “الأمن” و”الحضارة” تتحدى بشكل أساسي بنية النظام الذي تقوده الولايات المتحدة.
هناك إجابة واحدة فقط حول نوع النظام الذي تقوده الولايات المتحدة، وهو النظام المهيمن أحادي القطب تحت سيطرة الولايات المتحدة، وكشفت تلك التحليلات ببساطة أن الولايات المتحدة تخشى فقدان مكانتها القيادية العالمية، وهي لا تعرف كيف تواجه نظاماً مختلفاً متعدد الأقطاب، وهي في الواقع تقاوم وصول مثل هذا الأمر. لذلك، عندما تكون هناك دول لا ترغب في طاعة القيادة الأمريكية أو تعترض طريق الولايات المتحدة في تعزيز دورها القيادي، فإن واشنطن ستشعر وكأنها شوكة في الحلق ولن تضيع الوقت في إخراج عصاه. ولدهشة الولايات المتحدة، سئمت فرنسا اليوم من التسامح مع الولايات المتحدة التي تطالبها بالطاعة، والانصياع لإملاءاتها. ولا بد أن ذلك قد أثر في واشنطن.
تقارن “فوكس نيوز” العلاقات الدولية الحالية بالحرب الباردة، وهي تهمة الجاهل. وفي هذا السياق، قال يانغ شي يو، الباحث البارز في معهد الصين للدراسات الدولية: “السمة البارزة للهيكل العالمي قبل عام 1989 أن المواجهة كانت جماعية. دعونا نرى، من الذي يروج الآن للمواجهة الجماعية؟ إنها الولايات المتحدة. حيث أحكمت الولايات المتحدة قبضتها على حلفائها في محاولة لاحتواء الصين وروسيا بشكل مشترك، وشن حروب اقتصادية وحروب بالوكالة، وإكراه دبلوماسي، وتشهير. والآن، تريد تصوير نفسها على أنها عملاق لطيف، يتردد في مواجهة التحدي، لن يصدق أحد هذا بعد الآن”.
وفي سياق متصل، قال شو ليانغ، الأستاذ المشارك في كلية العلاقات الدولية بجامعة بكين للدراسات الدولية، إن ما تواجهه الولايات المتحدة ليس الصين ولا روسيا، بل توجه نحو عالم متعدد الأقطاب، والدعوة لتحسين النظام الدولي.
إن كل الدول تريد تنمية مستقلة، ولكن الولايات المتحدة تحاول الحفاظ على نظام الهيمنة، وقد أصبح ذلك تناقض العصر، فما يسمى بالنظام القائم على القواعد هو نظام يتجنب الاستعمار السياسي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لكنه ورث الاستعمار الاقتصادي والأيديولوجي بأشكال جديدة، وهو لا يوفر فرص تنمية عادلة للبلدان النامية، و غير عادل وغير مستدام. قال شين يي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة فودان، إن واشنطن لطالما قلبت الحقائق والمسميات في هذا الصدد، وسواء أحبت الولايات المتحدة ذلك أم لا، فإن زخم الدعوة إلى نظام عالمي جديد آخذ في الازدياد، حيث بدأ نزع الدولرة، وأخذت البلدان في التركيز بشكل أكثر على التعاون الإقليمي متعدد الأطراف، كما وتتزايد أهمية مجموعة “بريكس” بينما ينخفض تأثير مجموعة السبع، وأصبحت منظمات مثل منظمة شنغهاي للتعاون أكثر شعبية. وهذه اتجاهات لا تستطيع الولايات المتحدة عكسها أو تبديلها من خلال خلق أعداء أو ممارسة الضغط أو فرض الإكراه على الآخرين.
وفي مقابلة حصرية أجريت مؤخراً، قالت كلير دالي، وهي سياسية إيرلندية وعضو في البرلمان الأوروبي، إن العالم يشهد فجراً جديداً من العلاقات العالمية، حيث خسرت الولايات المتحدة قلوب وعقول معظم سكان العالم، وهي تحاول يائسة إبقاء الاتحاد الأوروبي، ربما أستراليا والمملكة المتحدة، كآخر مجموعة إلى جانبها.
ووفقاً لـيانغ، لن يتوقف اتجاه التعددية القطبية، وستعمل الولايات المتحدة كل ما في وسعها لوقف هذا الاتجاه، وستواصل تشكيل الأعداء، وتعزيز المواجهة بين المعسكرات، وإحكام قبضتها على الدول التابعة لها. ومع ذلك، بغض النظر عما تفعله الولايات المتحدة، ونوع الإستراتيجية التي تستخدمها، في النهاية، فإن الموقف المهيمن للولايات المتحدة سوف يتلاشى ويذهب أدراج الريح، والتي ستكون العلامة الأساسية لتعدد الأقطاب. وكلما قاومت الولايات المتحدة مثل هذه الاتجاهات بإساءة استغلال هيمنتها، كلما زاد الانقسام والمواجهة والدمار الذي ستجلبه للعالم، الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى مزيد من المقاومة لحنين الولايات المتحدة إلى عالم أحادي القطب.