تصاعد التدخل الأمريكي في القارة السمراء
البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد:
تعمل أمريكا على التمدّد داخل القارة الإفريقية عبر ذرائع مختلفة، منها ما هو إنساني، ومنها ما هو أمني، ومنها ما هو مرتبط بالإعمار، أو عبر شركات أمنية، ومنها ما هو مكشوف ودون أي خجل كنشاطات القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا التي درّبت عشرات ألوف الجنود والضباط الأفارقة، وأنفقت مليارات الدولارات، حيث اتبعت مناهج للتدريب على صياغة الانقلابات، فانتهى المطاف بأغلبيتهم للتحوّل إلى قادة انقلاباتٍ عسكرية هزّت القارة وزعزعت كيانها السياسي، بدلاً من الدفاع عن أمنها واستقرارها، إذ شهدت أفريقيا حوالي 200 انقلاب نجح خمسون منها، شملت حوالي 27 دولة أي نصف الدول الإفريقية، حيث تقوم هذه الأذرع والمؤسسات الأمريكية بالتعرّف على الضباط وجمع معلوماتٍ استخبارية عنهم على اعتبار أن أجهزة استخباراتهم ترافق قواعدهم وشركاتهم الأمنية وفعالياتهم المستترة الأخرى، حيث يتم التأكد من مدى تأثيرهم في القبائل الإفريقية لاختيار المناسب منهم لتنفيذ أجنداتهم وضمان نفوذهم من خلال دعمهم في إجراء الانقلابات، وإيصالهم إلى السلطة تحقيقاً لذلك.
واليوم نلحظ إعادة دخول على نار مستعرة للتدخّلات الأمريكية، وخاصةً في ظل تأزّم الوضع في السودان على خلفية الاشتباكات بين الجيش الوطني السوداني وقوات التدخل السريع، وفي ظل غياب أفق التنمية في هذه القارة لا يخجل القادة الأمريكيون من الاعتراف بأن “القارة أصبحت ساحة تدخّلات بالنسبة إليهم”، حيث يدعمون الانقلابات بشكل علني، باستثناء الانقلابات التي لم تأتِ وفق تصوّراتهم ومشاريعهم الاستعمارية كانقلابي بوركينا فاسو ومالي، كما نلاحظ تصريحات مشابهة من مسؤولين أوروبيين كالرئيس الفرنسي إيمانيول ماكرون الذي كانت بلاده أكبر “المتضررين” من “الانقلابين”، حيث شاهدنا دولاً أفريقية وللمرة الأولى تمهل القوات الفرنسية لإخلاء قواعدها، ناهيك عن قيام البوركينيين بحرق السفارة الفرنسية وما يمثله ذلك من وعي لخطر الغرب وتواجدهم الاستعماري في القارة.
إن هذا المشهد المحموم يعود إلى أسباب عديدة بعضها قديم ناجم عن الوضع السياسي الهش الذي تقاسيه معظم بلدان القارة لأنها كانت مستعمرة سابقاً، ولم يمض على استقلال معظمها أكثر من ستة عقود، ومن ثم تزعّمتها حكومات ومؤسسات مسيطر عليها من فرنسا وغيرها من القوى الغربية، باستثناء بعض الحالات النادرة التي أوصلت بعض القادة اليساريين إلى السلطة والذين تم اغتيالهم من قبل الاستخبارات الغربية ووأد مشاريعهم الرامية لتطبيق التجربة الاشتراكية وقطع العلاقات مع الدول الغربية الاستعمارية، ويضاف إلى تلك الأسباب أن المؤسسة المنظمة الوحيدة في تلك الدول غالباً ما تتمثل بالجيوش والقوى العسكرية، مع غياب الحراكات والمؤسسات المدنية، رغم وعد تلك القوى بتسليم السلطة لمؤسسات مدنية مراراً وتكراراً دون تحقق ذلك، ما سبب قلة في الوعي وفقراً في التجربة السياسية لمعظم دول القارة وتخبطاً في معظم مناحي الاستقرار على جميع الصعد، أما السبب الرئيسي الآن فيتمثل في الخوف الأمريكي من تمدّد الاستثمارات الصينية بعد أن غدت الصين الشريك الاقتصادي الأول للقارة، إضافة إلى نمو الاستثمارات والشركات الروسية والتعاون العسكري والأمني مع العديد من بلدان أفريقيا، عدى عن نمو استثمارات ومشاريع يابانية وعربية داخل القارة في مجالات عديدة أتاحت استثمار مواردها الغنية وطاقاتها ومعادنها بصورة أفضل مما كانت عليه إبان فترة وجود المستعمرون الأوروبيون، وتحاول واشنطن العودة مثلها مثل باريس إلى تلك البيئة الاستثمارية الخصبة، وخاصة مع سوء الأوضاع الاقتصادية العالمية والداخلية لهما والخضات الاقتصادية التي عانيا منها إبان جائحة كورونا سابقاً وتداعيات الحرب الأوكرانية في الوقت الحالي، ناهيك عن رغبة أمريكا في السيطرة على مناطق جديدة في العالم بعد أن ضمنت سيطرتها التامة على دول أوروبا عبر “الناتو”، وسيطرتها على العديد من المضائق والمعابر البحرية عبر أساطيلها، إضافة لقواعدها المنتشرة في العديد من دول العالم.
ورغم محاولة أمريكا مع عدد من الدول الأوروبية والكيان الإسرائيلي التظاهر مؤخراً بالاهتمام بشعوب إفريقيا وتحقيق التنمية لها، وتغيير خطابها تجاهها، إلا أنها في الوقت ذاته تخطّط لسيناريو هو الأقسى على القارة، بالتزامن مع تزايد خطر الإرهاب المدعوم منها أساساً، من خلال مناطق مستنقعية ضحلة تعاني من عدم الاستقرار والاضطرابات كقدر لها على الدوام، وتوريط دول جديدة مع الوقت في دخول هذا المستنقع والغوص فيه لإضعافه وإتمام هيمنة أمريكا والقوى التابعة لها على مقدرات هذا القارة وبقية قارات العالم، وللأسف لن يكون الحل إلا عبر انتهاج سياسة إفريقية حكيمة تقضي بإبعاد الجيوش الأمريكية والغربية عن جيوش بلادها، وقطع أي تعاون استخباري معهم، مع الحذر الشديد من الشركات سواءً العاملة في مجال الإعمار أو غيرها من المجالات، والتوقف بشكل خاص عن التطبيع مع الكيان الإسرائيلي وعدم التعامل مع شركاتها مهما كان نشاطها ونوعها.
إن الحل البديل يكمن عبر تعميق التعاون الإقليمي أو حتى على مستوى القارة السمراء، وتفعيل المبادرات العربية كمبادرة الجزائر، وغيرها من المبادرات الأفريقية الداعية للتعاون الأمني والاقتصادي لإيجاد حلول للأزمات التي تعانيها تلك البلدان، تبدأ من محاربة الفقر وإحلال التنمية، وتنتهي بضبط الحدود الهشة والقضاء على الإرهاب وأذرع القوى الغربية بشكل تام.