مجلة البعث الأسبوعية

رغم أنها تصرّ على ولادة نظام عالمي جديد.. هل تريد الصين الإبقاء على الولايات المتحدة دولة قوية؟

البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:

سؤال عريض يتبادر إلى أذهان كل متابع للصراع الدولي القائم حالياً بين روسيا والصين وإيران وحلفائهما حول العالم، والولايات المتحدة والغرب الجماعي وسائر الدول التابعة لهما، حول إلغاء هيمنة القطب الواحد الأمريكي على العالم والتحوّل إلى عالم متعدّد القطب تتساوى فيه فرص الجميع في تحقيق التنمية، وتسود فيه قيم العدالة والتسامح وتكافؤ الفرص بدلاً من القيم السائدة المتمثلة بالاستبداد والهيمنة والاستغلال وسرقة ثروات الشعوب التي يمارسها الغرب الجماعي.

ورغم أن بوادر النظام العالمي الجديد بدأت فعلاً بالتشكّل وتظهّرت حالياً بشكل واضح، بعد أن تفلّتت مجموعة من المناطق حول العالم من الهيمنة الأمريكية والغربية عليها، بل بدأت أصوات الدول الضعيفة تتعالى في مواجهة الاستبداد والاستغلال الغربي لخيرات الشعوب الفقيرة، وخاصة في أمريكا اللاتينية وإفريقيا، غير أن الصين تصرّ في سياق صراعها الواضح مع الغرب، وخاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية، على عدم استخدام أوراق القوة التي تمتلكها في مواجهة واشنطن، ومنها، على سبيل المثال وليس الحصر، سندات الخزينة الأمريكية التي تملكها، حيث تعدّ الصين أكبر مالك لسندات الخزينة الأمريكية، ويصرّ بعض المتابعين على القول: إن الصين تخشى أن تمارس نوعاً من المقامرة مع الولايات المتحدة انطلاقاً من هذه السندات التي لو قامت بسحبها فربّما سرّعت من انهيار الولايات المتحدة الأمريكية.

لقد شهد المحللون السياسيون والاقتصاديون الأمريكيون بأن الصين مارست ذكاء منقطع النظير في امتلاك أسباب القوة على الصعد كافة، وخاصة على الصعيد الاقتصادي، حيث تمكّنت بطريقة ذكية جدّاً من الحصول على التكنولوجيا الغربية المتطوّرة دون أن تستجدي ذلك بالفعل، فقد سمحت للشركات والمصانع العالمية، والأمريكية منها خاصة، بالدخول إلى السوق الصينية ونقل نشاطها إلى البرّ الصيني بالاعتماد على اليد العاملة الصينية الرخيصة، وبذلك تمكّنت هذه الشركات من الاستفادة من هامش ربح كبير حقّقه لها هذا الأمر على مدى سنوات طويلة، لأن الفرق بين تكلفة إنتاج السلعة على الأراضي الأمريكية والصين فرق شاسع جدّاً، وبالتالي تمكّنت من الاستفادة من أرباح فلكية وفقاً لذلك.

ولكن على المقلب الآخر، وهو الجانب الذي لم تتمكّن هذه الشركات والمصانع من إدراكه بداية، أتاحت للصين الحصول على التكنولوجيا المتطوّرة سواء عبر تقليد الآلات والمنتجات، أم عبر تمكين اليد العاملة الصينية من الوصول إلى الخبرة في الصناعة، وبالتالي تمكّنت الصين لاحقاً من إنشاء مجموعة من المعامل والمصانع قلّدت من خلالها العديد من السلع الغربية وخاصة الإلكترونية الدقيقة، مستفيدة من العمالة الرخيصة المتوفّرة لديها، ولم تكتفِ بذلك بل قامت بغزو الأسواق العالمية بالسلع الصينية الرخيصة، الأمر الذي أثار غضب العالم الغربي من هذه المنافسة الشديدة للصين التي بلغت في مرحلة من المراحل حدّ السيطرة على الأسواق الغربية، وكلّفت الغرب بشركاته ومؤسساته خسائر باهظة لم تكن في الحسبان، وبالتالي ثارت ثائرته من هذا الأمر، ولكنه حاول بالطرق الدبلوماسية إقناع الصين بتخفيف قبضتها عن الأسواق حتى لا يُفتضح أمر هذه الصّدمة التي تعرّض لها في هذا الجانب.

غير أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كان وقحاً، إن صحّ التعبير، في التعبير عن هذه المخاوف الغربية، ولاسيما الأمريكية، من الصين التي اتهمها بسرقة الملكية الفكرية للمنتجات الأمريكية، وراح يفرض عليها عقوباتٍ تجارية محاولاً من خلالها إخضاع الصين لشروطه، غير أن وقت التهديد كان قد فات فعلاً، لأن الصين تمكّنت بهدوء من السيطرة على أسواق العالم واجتاحته بمنتجاتها الرخيصة، واستفادت من كل ذلك في تقوية جيشها ونظامها، وبالتالي فشل ترامب في إخضاع الصين للسيطرة الأمريكية، وليس ذلك فحسب، بل عرّض سلاسل الإنتاج العالمية لخضّات كبيرة من خلال هذه العقوبات التي أثّرت سلباً أيضاً في حلفائه الغربيين، وبالتالي أحدث شرخاً واضحاً في العلاقة بين واشنطن وحلفائها، الأمر الذي كان سبباً رئيسياً في خسارته الانتخابات الرئاسية السابقة أمام منافسه الديمقراطي جو بايدن الذي أصبح رئيساً فيما بعد.

والآن، وبعد اختيار الرئيس الحالي بايدن استفزاز الصين في أكثر من مكان، وخاصة في تايوان التي تعدّها الصين خطّاً أحمر، وقيامه على الأرض بنقض التعهّدات الأمريكية السابقة حول احترام فكرة الصين الواحدة التي تصرّ عليها الصين في علاقاتها مع دول العالم، ورغم أن إدارة بايدن مارست جميع الأساليب لاستفزاز الصين وإجبارها على الابتعاد عن روسيا أو فكّ تحالفها معها، بعد خسارة واشنطن والغرب الواضحة في أوكرانيا، غير أن الصين لم تقُم مطلقاً بالإيحاء بقدرتها على التأثير بشكل قوي في الولايات المتحدة الأمريكية، مع علمها أن الاقتصاد الأمريكي يعيش أسوأ لحظاته وهو قابل في أيّ لحظة للانهيار، الأمر الذي يمكن أن يؤدّي إلى انهيار الولايات المتحدة وانفراط عقد ولاياتها، وبالتالي تتحوّل إلى دولة ضعيفة.

فما الذي يجعل الصين تصرّ على إضعاف الولايات المتحدة دون الوصول إلى هزيمتها هزيمة كاملة، وما الذي يمنعها من ذلك، ما دامت تمتلك جميع الوسائل التي تمكّنها من تدميرها، وهي التي تعدّها عدوّاً لها وتعمل بقوة على تدميرها وتقسيمها؟ بل ما الذي يدفعها إلى إضعاف الدولار فقط دون الوصول إلغائه نهائياً من سلّة العملات العالمية، رغم أنها تمتلك القدرة من خلال سندات الخزينة التي تمتلكها في البنوك الأمريكية؟.

لا شك أن المراقب الواعي لما يحدث الآن في الصراع القائم حالياً بين واشنطن وبكين، يدرك جيّداً أن الصين لا ترغب في إلغاء الولايات المتحدة بشكل نهائي أو تدميرها، لأنها على وجه الحقيقة تفكّر فقط في إضعافها، وهي تعلم أن السوق الأمريكية تعدّ السوق الأكبر في العالم لتصريف منتجاتها، وبالتالي تريد منها أن تكون رافداً للاقتصاد الصيني، دون أن تدخل في صدام مباشر معها، بمعنى أنها تريد تحويلها إلى جابٍ للأموال التي تصبّ في خزينتها فقط.