فريق الظل والصمت
بسام هاشم
أقر مجلس الوزراء أمس التوجهات الأساسية للسياسة الحكومية للتعاطي مع آثار الزلزال، وخطة العمل الوطنية للتعاطي مع تداعيات الزلزال، بهدف مساعدة المناطق المنكوبة على استعادة حياتها الطبيعية وتحسين الواقع العمراني وتوفير مقومات البيئة التمكينية.
ورغم أن فترة الثلاثة أشهر التي تفصل بين كارثة الزلزال وبين إقرار الخطة والتوجهات تبدو قصيرة نسبياً بالنظر إلى واقعة الزلزال نفسها، والتي ما كان ليمكن فصلها عن هزاته الارتدادية التي لا تزال مستمرة حتى اليوم، إلا أن من المهم الإشارة إلى أن كلاً من التوجهات والخطة شكّلا أول وثيقة استرشادية من نوعها في التعاطي مع الكوارث الطبيعية في تاريخ سورية، ولعلها أيضاً أول وثيقة “حقوقية” أو “قانونية” تضع المبادئ الأساسية للعلاقة بين أفراد “متضررين جماعياً” وبين الدولة “دولتهم”، مع الاعتراف بحقوق وحدود إمكانات كل منهما؛ ولعلها أخيراً لبنة جديدة في عملية الإصلاح الإداري الجارية في سورية، بما تعكسه، نظرياً، من مستوى متقدم من التشبيك والاعتمادية المتبادلة القائمة بين مجتمعات القرن الواحد والعشرين وبين مؤسسات الدولة الحديثة، بما تتصف به من رشاقة وديناميكية ومرونة، وبما تلقاه من دعم فرق الخبراء والاستشاريين الذين يترجمون مهاراتهم على الأرض وفق أرقى أساليب الإدارة الحديثة، ويكونون الرديف “غير المرئي” الذي يعمل بصمت، ونكران للذات، وفق أعلى معايير الكفاءة.. هؤلاء هم “فريق الظل” الذين تتمثل مهمتهم الرئيسية في ردم الفجوة المتزايدة باستمرار بين محدودية قدرات الأجهزة الحكومية في كل دول العالم، بلا أية استثناءات تقريباً، وبين الاحتياجات المتنامية – باستمرار أيضاً – للمجتمعات الحديثة، وبين تجاوز بيروقراطية ثقيلة موروثة عن نمط متهالك في إدارة مقدرات الدولة، وضرورة الإيفاء بمتطلبات المنافسة العالمية التي دخلت، خلال السنوات الماضية، كعامل لا يمكن تجاهله، أو التهاون فيه، في الحسابات الأمنية والاستراتيجية بين الدول.
تؤسسس التوجهات الأساسية وخطة العمل الوطنية للتعاطي مع تداعيات الزلزال لفلسفة مختلفة في علاقة الحكومة مع المجتمع، لتضع كل منهما أمام مسؤولياته التي يفرضها الطابع المعقد للدولة الحديثة التي تودع، اليوم، شكلها الأبوي بكل ما أفرزه من سلبية واتكالية – وربما فساد – لتدشن أنموذجاً قائماً على المبادرة والمشروع الصغير المتحرر من ثقافة الاكتفاء والندرة.. لقد حرّر الزلزال قدرات مادية ومعنوية لم تكن لتظهر لولا تلك اللحظة التي أعادت للمجتمع، على اختلاف شرائحه وفعالياته، طاقته الكامنة، ووفرت له سبل التواصل والتلاقي العفويين، وشحذت وطنيته في مضمونها العاطفي الروحي، ومسّت عمق وجدانه وإنسانيته، في تضاد كامل مع ما حاولت البروباغندا الأطلسية والتكفيرية الترويج له، وتكريسه، والإمعان فيه، طوال سنوات الحرب الإرهابية.
ولعل الحقيقة الأهم التي كان يمكن استخلاصها من حادثة الزلزال، في شباط الماضي، أنها عكست، منذ اللحظات الأولى، صورة تبعث على الثقة العالية بأداء دولة تعلمت الكثير من قسوة الحرب، وتمرست في التعاطي مع الظروف الصعبة، وعلى أكثر من محور، بحيث طورت نهجا خاصاً ومركباً في تلبية احتياجات مواطنيها، وتوفير الظروف المناسبة للاستمرار بايقاعات العيش المعتادة إلى أقصى درجة ممكنة، وتطوير نوع من الاستجابة المشتركة للمؤسسات والأجهزة الحكومية ومؤسسات وجمعيات المجتمع الأهلي في تقديم مختلف أوجه الدعم والمساعدة للمتضررين، بحيث كان يمكن الحديث عن ولادة جديدة للمجتمع السوري والوطنية السورية كحقيقة تضامنية وإسعافية يومية تحدت العقوبات الغربية والحصار الاقتصادي، وقدمت الصورة المشرقة للتكافل الاجتماعي والوحدة الوطنية، وتجند لها السوريون طوعياً، على اختلاف أعمارهم ومناطقهم، في إطار جهود الإنقاذ السريعة والطارئة.
تطور المجتمع الأهلي ووطّد حضوره مع كارثة الزلزال، لتنهض الدولة الحديثة، ودون مبالغة، عبر اختبارات ومبادرات متفرقة باتت تتوزع اليوم أفقياً، وعلى امتداد الجغرافيا السورية، وتقدم تجارب نجاح شجاعة عنوانها الانتماء إلى هذا العصر والتشبع بمعاني الهوية والأصالة، والنظر إلى المواطن باعتباره الرصيد الحقيقي الذي لا يمكن بناء الأوطان القوية إلا بضمان استمرار ازدهاره ورفاهيته وتعليمه وتلبية احتياجياته الأساسية.