تحقيقاتصحيفة البعث

المخترعون السوريون بحث دائم عن الحاضنة الاستثمارية.. ومطالب لتأسيس هيئة عليا للاختراع

 

رغم وقوفهم على منصات التتويج العالمية، وحصدهم جوائزها على إبداعاتهم التي قدمت للإنسانية مثالاً حياً على أن الإنسان السوري خلاق بطبعه، ومع استمرار محاولات المخترعين يومياً للسير في طريق الإبداع والاختراع، وإيجاد الحلول للمشاكل التي نعاني منها في مختلف نواحي الحياة، إلا أن طريق الأشواك الذي يسير فيه هؤلاء المخترعون لم يعبّد بعد على المستوى الوطني، وتجلّت همومهم بعدة مصاعب ومعوقات تتعلق بالتمويل والاستثمار اللازم لمشروعاتهم، ما خلا استثناءات لا تسمن ولا تغني من جوع من بعض الجهات الرسمية، في محاولة لرأب هذا الصدع الذي تتوسع فجوته يوماً بعد يوم.

معوقات

إن أكثر ما يعاني منه المخترعون اليوم من مصاعب هو عدم وجود حاضنة استثمارية مناسبة لنقل إبداعاتهم من الحالة النظرية إلى العملية، وذلك لأن المستثمرين يفضلون استيراد المنتجات الأجنبية التي تحل مشاكلهم رغم أثمانها الباهظة على دعم المخترعين واختراعاتهم نظراً للمخاطرة التي يتوقعونها في مثل هذا الدعم، كما تمثّل حالة مرور الوقت الطويل لتسجيل براءات اختراعهم، والروتين الذي يكتنفه، هاجساً يقض مضاجعهم حتى الوصول إلى بر الأمان، وقد عانى بعض مخترعينا من خسارتهم لحماية براءات اختراعاتهم نتيجة عدم تسديد رسوم بسيطة للجهات الرسمية في ظل الأزمة التي تعرّض لها بلدنا، خصوصاً أنهم جزء من شريحة الطبقة المتوسطة من الشعب، ومن مختلف مناطق القطر.

أساسيات

الدكتور محمد وردة، رئيس جمعية المخترعين السوريين، بيّن أن للاختراع ثلاثة وجوه هي: في الحالة الأولى الوصول إلى منتج جديد بطريقة جديدة مثل اختراع البلاستيك الذي فتح آفاقاً عديدة في الحياة، وفي الحالة الثانية الوصول إلى منتج جديد بطريقة معروفة، مثال استخدامات التيار الكهربائي وفعل جول بالأسلاك الذي ساهم في تصميم المدافىء الكهربائية، والسخانات، ولمبات الإنارة، وتتمثّل الحالة الثالثة بالوصول إلى منتج معروف بطريقة جديدة مثل السيارة، وتعدد اختراعات محركاتها من البخارية إلى الديزل، والكهرباء، علماً أن الاختراعات الضخمة جاءت نتيجة لسلسلة من الاختراعات البسيطة، لأن الاختراع بالمفهوم العام هو أية فكرة مبتكرة لها جدوى اقتصادية، وقابلة للتطبيق الصناعي، مع التأكيد على قابلية التطبيق الصناعي، لأنه في حال عدم توافر هذا الشرط تنتقل حمايتها إلى وزارة الثقافة “مديرية حقوق المؤلف” مثل برامج المعلوماتية.

مقارنة

ويرى وردة أن الاختلاف بالاختراع بين الدول المتقدمة والنامية يكمن في أن براءات الاختراع في الدول المتقدمة تدعم من قبل شركات ضخمة، حيث تقوم هذه الشركات بطرح مشاكل على عدد من الخبراء وتدعمهم لحل هذه المشاكل، وتسجيل براءات الاختراع بأسمائهم، مع حق الاستثمار للشركة، بينما في الدول النامية أصحاب براءات الاختراع أفراد من محدودي الدخل بالصورة العامة، يقومون بتسجيل براءات اختراعهم وفق وجهة نظرهم التسويقية، وعند حصولهم على هذه البراءات يفاجؤون بعدم وجود استثمار لمخترعاتهم في السوق المحلية، وأن معظم أصحاب رؤوس الأموال يفضلون استيراد المنتج من الخارج بدلاً من دعم هذه الاختراعات، وهذا يؤدي إلى عدم وجود حاضنة استثمارية داعمة لهم ليطوروا مقدراتهم، ويتمكنوا من استنباط الحلول المختلفة للمشاكل التي تواجه شتى القطاعات.

مطالبات وحلول

ويؤكد رئيس جمعية المخترعين أن الحكومة قامت بإجراءات بسيطة لدعم الاختراع والمخترعين مثل إقامة معرض الباسل  بدوراته المتتالية، حيث شكّل نافذة لطرح المخترع السوري براءة اختراعه على المستثمرين، إلا أن حالة استثمار الاختراعات مازالت دون المأمول، لذلك يرى وردة وجوب القيام بعدد من الإجراءات، على رأسها تأسيس الهيئة العليا للاختراع، وترتبط إما برئاسة الجمهورية، أو برئاسة مجلس الوزراء، وتكون لها موازنة مستقلة، ليكون أهم بند في نطاق عملها نقل الاختراع من الحالة النظرية إلى التطبيق العملي، والقيام بجملة من الإجراءات، أهمها إعفاء المنشآت التي تستخدم مخترعات وطنية من الضرائب لفترات محدودة، وإعطاء قروض دون فوائد لمن يقوم بالاستثمار ببراءة اختراع وطنية، وإعفاء الآلات التي تصنع وفق براءات اختراع وطنية من الرسوم الجمركية، علماً أن القانون الأساسي للعاملين في الدولة منح العاملين الحاصلين على براءة اختراع ترفيعاً استثنائياً بين 6 إلى 24% من الراتب، مضيفاً بأن جمعية المخترعين السوريين تعامل حتى اليوم مثل الجمعيات الخيرية دون أي دعم مالي، علماً أن الحكومة أعطت الجمعية عام 2004 مبلغ 25 ألف ليرة سورية فقط، وفي العام التالي 100 ألف ليرة سورية، وتوقف الدعم منذ عام 2007 حتى اليوم.

مفارقة

وأشاد وردة بدور وسائل الإعلام في تغطية أخبار المخترعين، ونشر ثقافة الإبداع والاختراع، ما أعطى حافزاً لكل المجتهدين، خصوصاً أن السوريين تعوّدوا دائماً على حصاد الجوائز الأولى في المسابقات التي اشتركوا بها، على سبيل المثال في عام 2004 حصلت طفلة سورية على الجائزة الذهبية في معرض طوكيو نتيجة براءة اختراع عن الأدوات المدرسية.

ويرى رئيس جمعية المخترعين السوريين أنه من غير المعقول أن يسجل عام 2002 أكثر من نصف مليون براءة اختراع في اليابان، في حين تم تسجيل 50 براءة اختراع في سورية للعام نفسه، علماً أن عدد سكان سورية آنذاك يشكّل 1/10 من عدد سكان اليابان، وكان الطموح أن يكون العدد على الأقل 50 ألف براءة اختراع نسبة لعدد السكان، مع وجود ما يقارب 500 مخترع تقريباً سجلوا في الجمعية، وهناك الكثير من المجالات القابلة للاختراع والتطوير، على سبيل المثال سجل حتى اليوم ما يقارب 10 آلاف براءة اختراع في مجال الدراجة الهوائية، ومازال العمل مستمراً لتطويرها، فهل من المعقول أن يحصد السوريون الجوائز في الخارج، وألا يقدموا الكم المعقول نسبة لتاريخهم وحضارتهم وعقلهم المتميز على مستوى العالم في سورية؟!.

براءات ساقطة

وكشف وردة عن القرار الذي صدر خلال فترة الأزمة بإسقاط الكثير من براءات الاختراع نتيجة عدم دفع الرسوم المطلوبة لها للجهات الرسمية مقابل تسجيل الحماية وحقوق الملكية، وهي رسوم زهيدة لا تتجاوز بحدها الأعلى 1000 ليرة سورية، وهو إجراء غير اعتيادي نظراً للظروف الصعبة التي كانت سورية تمر بها، وعدم قدرة المخترعين على القدوم إلى العاصمة، ومراجعة الجهات الرسمية لهذا الأمر، لذلك قامت جمعية المخترعين السوريين بمراسلة وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك لاستصدار قرار بخصوص هذه البراءات، ومنح أصحابها فترة سماح بالتسديد، لأن سورية كانت في فترة حرب، ونحن بحاجة لنعوض على هؤلاء المخترعين، ونحمي ملكياتهم، وقد استجابت الوزارة للطلب، وتعمل على الانتهاء منه قريباً ليأخذ كل صاحب ذي حق حقه.

معرض نوعي

مدير معرض الباسل للإبداع والاختراع المهندس ياسر سعدا بيّن أن أعمال معرض الباسل للإبداع والاختراع انطلقت في دورته الأولى عام 1992بستة وعشرين مشاركاً، وتابع رحلته مع الإبداع والمبدعين حتى يومنا هذا، وأقيم المعرض بشكل سنوي حتى عام 2003، إذ تغيرت دورته وأصبح كل سنتين، وآخر دورة استثنائية كانت عام 2018 بمشاركة 514 مشاركاً، وتخللت دورات المعرض مشاركات أجنبية كانت في مجموعها الأكبر في الدورة الرابعة عشرة، إذ بلغت المشاركات 231 مشاركة من مختلف دول العالم.

وأضاف سعدا بأن نشاطات الإبداع والاختراع أخذت منحى متطوراً من خلال اهتمام وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في هذا الجانب، ووضع الخطط الكفيلة بتطويره، وتقديم كل الدعم الممكن للمبدعين والمخترعين، والاستفادة من هذه الاختراعات فيما يخدم الحالة الوطنية، كما عملت الوزارة على نشر المعرفة، والتوسع في برنامج نشر الثقافة الملكية الفكرية، وتسجيل براءات الاختراع بأسماء أصحابها، وفي هذا السياق تم تطبيق مبدأ التحفيز، وإعطاء جوائز قيمة للاختراعات صاحبة التميز، والتواصل مع مختلف الجهات لدعم المخترعين، كلاً وفق الاختصاص والحاجة له.

توازع مسؤوليات

بدورها رئيس دائرة الملكية الفكرية في وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك المهندسة نسرين عقل أكدت أن الاختراع هو أساس الحضارة التي وصلنا إليها، وقد عادت عجلة الاختراع في سورية إلى سابق عهدها بعد الأزمة التي عصفت بها وتجاوزتها بخير وسلام من خلال الاستمرار بإقامة معرض الباسل، وتوقيع العديد من الاتفاقيات لدعم الاختراع والمخترعين، وقد ظهرت بوادرها من خلال توجيه كتب إلى الهيئات المعنية، كلاً حسب اختصاصها، لتبني هذه الاختراعات، والعمل على إطلاقها، فكانت الباكورة من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل التي أخذت عشر براءات اختراع في مجال الزراعة، وأحضرت المخترعين ليقوموا بإنجازها وإطلاقها في عجلة الاستثمار، ولا يمكن نسيان الدور الهام لوزارة التربية، ووزارة التعليم العالي في العناية بالمخترعين، ودعمهم لتطوير أفكارهم، ومحاولة إخراجها إلى النور، خصوصاً الثانويات، والمعاهد الصناعية، والكليات التطبيقية في الجامعات، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف تم التأكيد على التسجيل في الملكية الفكرية لحماية هذه الاختراعات نظراً لضرورة نشر ثقافة الملكية  الفكرية، ومعرفة حقوق المخترعين وواجباتهم، وتمت العديد من الإجراءات في هذا السبيل.

متميزون

ومن خلال دعم الإبداع والمبدعين ظهر الكثير من أبناء سورية في الحالة العلمية الحقيقية التي تميزهم فقدموا اختراعات تهم الإنسانية، وتحل المشاكل في كثير من المواقع، وعلى سبيل المثال قام د. أحمد العوض باختراع جهاز نقل هوائي لمادة الدقيق يوفر الجهد، والوقت، والأيدي العاملة، ومواد التعقيم، وهو ذو كفاءة عالية وفعالية مميزة بنقل الدقيق، ويمكن استخدامه في عمليات تنظيف الآلات وأسفلها، وتنظيف الزوايا الضيقة التي يصعب الوصول إليها يدوياً، وتنظيف مجاري التهوية للمحركات الكهربائية دون الحاجة لتوقف المطحنة، ما يؤدي إلى زيادة الطاقة الإنتاجية، ويقلل من احتمال حدوث الانفجارات الغبارية الثانوية، والأمراض المهنية، وتم تبنيه وتطبيقه من مواد بسيطة دون أية كلفة مادية تقريباً، حيث أكد العوض أن اختراعه كان من الخردة الموجودة في المطحنة.

وبيّن العوض أن وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك تبنت الاختراع وقامت بتنفيذه في مطحنة اليرموك في خطوة لنشره في كافة مطاحن القطر، علماً أن الوزارة قامت بتكريم المخترع، وتقديم كافة أشكال الدعم له، سواء المادي أو المعنوي، نظراً لأهمية هذا الاختراع.

وقام المهندس ناظم عبدو، مدير مخبز صلخد حالياً، باختراع جهاز تحكم آلياً بحرارة بيت النار داخل الأفران وغرف الاحتراق المفتوحة بهدف توفير الوقود، وتخفيف انبعاث الغاز، وقد حقق كما تبيّن وفراً في استهلاك الوقود بنسبة 15بالمئة، إضافة لانعكاسه فنياً على عملية التصنيع وجودة المنتج، وقد أعطى فعالية كبيرة لعملية الخبز، وحماية سلاسل بيت النار، وتجنيب الأعطال، ما ساهم في توفير الوقود،. وتحسين جودة الرغيف، حيث تم تطبيق هذا الاختراع في عدة أفران في محافظة السويداء ضمن خطوة وطنية لنشره، وقد تم تكريم المهندس عبدو من قبل الجهات المعنية مادياً ومعنوياً، ودعمه للاستمرار في مسيرة التميز التي رافقته ومازالت.

ومن ضمن المخترعين الشباب الذين فازوا بجوائز معرض الباسل في دورته الأخيرة كل من: حكمت جبولي، الطالبة في كلية الهندسة الطبية بدمشق التي ابتكرت جهازاً تقويمياً لمرضى الشلل النصفي الذي يعمل بآلية ميكانيزم ركبة، ويساعد مرضى الشلل على الوقوف والجلوس دون مساعدة أحد، والطالب علي باكير في كلية الهندسة الطبية بجامعة تشرين الذي قام باختراع كف صناعي يساعد مبتوري الكف والساعد، والأشخاص الذين شلت أيديهم على التقاط الأدوات، واستمرار حياتهم بشكل طبيعي، كما شاركت الشقيقتان فاطمة وياسمين الإسماعيل، وهما طالبتان في كلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية، قسم الحاسبات في جامعة تشرين، باختراع عصا للمكفوفين تمكن المكفوف من السير في الاتجاه المناسب، وإعطاء تنبيهات على وجود العوائق، أو برك المياه، وإنذار الناس الآخرين للمكفوف من خلال ضوء من العصا يطلق ليلاً، كما يمكن معرفة مكان العصا في حال فقدانه من خلال جهاز تحكم يكون بحوزة المكفوف.

من الآخر

إن الاختراع بات حاجة وطنية، خصوصاً في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها سورية خلال الحصار الجائر عليها في ظل انطلاق مرحلة إعادة الإعمار، وما تتطلبه من مقدرات العقل السوري في الابتكار لإنجاز هذه المرحلة التي ستشكّل منعطفاً تاريخياً، فهل سنرى إطلاق الهيئة العليا للاختراع، وعملية دعم مشتركة بين كافة القطاعات للمخترعين، أم سنبقى مرتبطين بعجلة التقنية الغربية.. إلى متى الانتظار؟!.

مرهف هرموش