مجلة البعث الأسبوعية

كتلة مالية ضخمة موظفة في القطاع العقاري بلا تخطيط.. والنتيجة عشرات الآلاف من المساكن خالية مقابل عوز للسكن!

 دمشق – البعث الأسبوعية

يتربع التخطيط بشقيه (التكتيكي والاستراتيجي) على عرش نجاح أي عمل، ومستوى هذا النجاح يتناسب طرداً مع حُسن مستوى ما خُطط وما دُرس، ما يعني أن التخطيط بمثابة البوصلة المحددة لمسارات التوجه الصحيح في شتى أشكال التنمية بما فيها العقارية التي لا تزال بعيدة عن التخطيط وما نجم عن ذلك من تخبط شوه قطاعنا العقاري وجعله رهن مزاجية محتكريه من التجار والسماسرة، ونأى به عن مستحقات التوازن التنموي!

ما سبق يقودنا للحديث عن توظيف كم هائل من رأس المال في سوقنا العقارية بشكل اعتباطي إن صح التعبير بعيداً عن الحد الأدنى من التخطيط المفترض أن  يضع حداً لتمرد العقار وتخبطه لجهة ارتفاع أسعاره، ويكسر حدة الطلب بزيادة نسبة العرض!

صعوبة

ولّد غياب التخطيط عن توظيف الكتلة المالية الهائلة في القطاع العقاري معروضاً كبيراً خلف مئات الآلاف من الوحدات السكنية الخالية عجزت عن حل مشكلة السكن في سورية، إذ لا يزال هناك صعوبة بالغة بالحصول على مسكن، وبالتالي فإن التمويل ليس هو العائق، بل تكمن المشكلة بالاحتكار والمضاربة الناجمتان عن ممارسة القطاع الخاص المسيطر على القطاع العقاري، ولعل أخطر ما ابتلي به هذا القطاع يتمثل بدخول أصحاب رؤوس أموال –في مرحلة سابقة- نعتوا أنفسهم بـ”المستثمرين” حتى يتسنى لهم على شراء أراضي بحجة إقامة “مشاريع استثمارية مزعومة”، ليتبين لاحقاً أن القصد منها هو المضاربة بما حازوا من أراض تقصدوا رفع أسعارها وانعكاس ذلك على رفع أسعار الوحدات السكنية والتجارية!

فترة انتقالية

رغم ما يعانيه قطاعنا العقاري من ارتكاسات وتناقضات بعضها ناجم عن تداعيات الأزمة التي نمر بها، والبعض الآخر يعود لخصوصية ينفرد بها عن نظرائه في معظم دول العالم، إلا أن بعض المعنيين به يرون أنه يمر بفترة انتقالية أشبه ما تكون بإعادة حسابات وترتيب أوراق طالما جعلت منه قطاعاً متمرداً على قوانين السوق المتعارف عليها، حيث أكد المستثمر العقاري شادي زهرة أن وضع العقار في سورية يدعو إلى التفاؤل، رغم ما يكتنفه من غموض ومخاطر في هذه الفترة، إلا أننا سنشهد نشاطاً اقتصادياً عاماً غير مسبوق خلال مرحلة ما بعد الأزمة، سينعكس بالضرورة على العقار، ومن المتوقع أن يكون الازدهار العقاري المرتقب ضمن أسس منطقية بعيدة عن المزاجية المسيطرة حالياً على السوق، كما أن تطبيق المرسوم التشريعي رقم 40 الخاص بمخالفات البناء بعيداً عن الحسوبيات وما شابه، سيسهم بضبط الحركة العمرانية وتنظيمها، والأهم من ذلك الحد من انتشار العشوائيات.

مصدر تفاؤل زهرة بمستقبل العقار السوري منطلق من قاعدة أنه «يمرض ولا يموت» وهذه القاعدة مرتبطة بشكل أساسي أن سورية ستكون أرضاً خصبة لجميع المستثمرين، إلى جانب أن هذا القطاع  لا يزال خاماً مقارنة بدول عربية وإقليمية أخرى.

مرحلة الكبار

واعتبر زهرة أن دخول استثمارات عقارية جديدة من شركات محلية وأجنبية سيؤدي إلى نهضة عمرانية ومنافسة في الأسعار سينعكس إيجابياً على المواطن والاقتصاد الوطني، وستأخذ سعرها الطبيعي، فالتفاوت الكبير في أسعار العقارات من منطقة إلى أخرى سينخفض إلى أدنى درجاته في ظل النهضة العمرانية المرتقبة على اعتبار أن معايير جودة البناء وتنظيمه والخدمات المتوفرة فيه هي من تحدد السعر المنطقي والمدروس لكل منطقة، وتوقع زهرة أن تحد المرحلة القادمة من عمل صغار تجار العقارات، فالحظوة الأكبر ستكون من نصيب الشركات الكبيرة، حيث سيقتصر عمل المستثمر الصغير على بناء أو اثنين في أحسن الأحوال، ولن يكون له وجود يذكر في ظل التكتلات الضخمة والمشاريع الكبيرة والمنافسة القوية.

ونوه زهرة بأن هذه الظاهرة صحية لأن أبرز سمات هذا العصر هو التكتل والشركات المساهمة، ومن يقدم عمل نوعي هو من سيستمر في السوق، مع الإشارة إلى حتمية تفعيل التمويل العقاري، نظراً لما ستشهده مرحلة ما بعد الأزمة من ازدهار.

لابد من حلول

أصبح هذا المشهد غير المتوازن بحاجة لحلول ومعالجات جذرية كفيلة لإعادة  التوازن لقطاع أثبت أسوة بنظرائه في دول العالم، والاشتغال على إعادة تسييل الأموال الموظفة في السوق بحيث تحدّ من المضاربة وتفسح المجال أمام المنافسة الحقيقية، مع الإشارة هنا إلى أن هناك كثير من الانتقادات والتحفظات على التدخل الحكومي في القطاع العقاري، فهو إن وجد لم يتعد الحدود الدنيا التي لا تغن ولا تسمن من جوع، وما حالات التخبط والمضاربة التي تجتاحه إلا نتيجة حتمية لغياب الدور الحكومي عن الساحة العقارية في سورية، واستئثار القطاع الخاص وتجاره لسوق بات التمرد والجنوح عناوين بارزة لها لعقود قضّت مضاجع طالبي السكن خاصة الشباب منهم، لتطل علينا الحكومة بهيئتين عامتين معنيتين بالشأن العقاري، وصِفَتا بجناحين منقذين لسوق العقار، وسيعملان على ضبطه وإعادة استقراره المفقود عبر التحليق به إلى بر الآمان، فالأولى معنية بالتطوير والاستثمار العقاري وقد بشرتنا بمشاريع ورقية لم تجسد بعد على أرض الواقع، والثانية معنية بالتمويل ولكنها إلى الآن لم تنخرط في السوق وتلتحم مع الجناح الأول إلا بالاجتماعات وما يتمخض عنها من “قرارات وتوصيات تهدف إلى تذليل العقبات والتحديات لإعطاء العمل الزخم المطلوب والإقلاع بالمشاريع التنموية العقارية وتأمين السكن الاجتماعي”، وكانت النتيجة إلغاء الأولى لكون أن قانون الاستثمار كفيل بتنظيم عملها من قبل هيئة الاستثمار السورية!

عبء مفترض!

يرى بعض المراقبين أن مشكلة السوق العقارية لدينا لا تتعلق بالتمويل وتوفير السيولة اللازمة لتأمين المساكن الاجتماعية منها والارستقراطية، بدليل الحجم الهائل للكتلة النقدية المسخرة في قطاع العقارات، مستبعدين أن تكون هيئة الإشراف على التمويل العقاري لاعباً أساسياً في السوق وتعمل على ضبطها وتنظيمها، لكن يمكن أن ينحصر دورها بالإشراف على تمويل شركات التطوير العقارية من قبل شركات التمويل المقرر إدخالها إلى السوق بعد إصدار القانون الناظم لعملها، على اعتبار أنه ثبت عدم الملاءة المالية المطلوبة لشركات التطوير، معتبرين أن المصارف يمكن أن تلعب هذا الدور وتقوم بعملية التمويل، وأبدى المراقبون خشيتهم أن تشكل شركات التمويل المرتقبة عبئاً إضافياً مثل سابقاتها (شركات التطوير) التي لم تحرك ساكناً رغم تكاثرها المفرط حسب وصف البعض.

رأي مختلف

في المقابل هناك من يرى أن ثمة حاجة للتمويل العقاري أكبر من الموجود حالياً وأن شركات التمويل العقاري وإعادة التمويل ستعمل على سدها خاصة في مشاريع التطوير العقاري، وأن مناطق التطوير العقاري تحتاج إلى مبالغ مالية ضخمة جداً كونها عبارة عن مدن متكاملة بأطيافها كافة (ضواحي سكنية – مولات – مستشفيات – مدارس ..الخ)، وقد تصل المبالغ المطلوبة لإنشاء منطقة واحدة لمئات وربما آلاف المليارات من الليرات لا تستطيع المصارف توفيرها، بينما من شأن شركات التمويل العقاري وإعادة التمويل توفير هذه السيولة وبنفس الوقت تضمن حقوق جميع الأطراف في عملية التمويل.

وحجة أصحاب هذا الرأي قائمة على أن توفير التمويل يراعي الوضع الخاص والإمكانيات المالية لأصحاب الدخل المتوسط والمحدود، من خلال تفعيل عامل المنافسة في عملية التمويل العقاري، علماً أن الفرق بين التمويل وإعادة التمويل يكمن بأن الأول يتمثل بتمويل الاستثمار إما بغرض البيع والشراء، أو البناء والترميم وتحسين المساكن والمنشآت، سواء كانت خدمية أم عقارات مخصصة للنشاط التجاري والصناعي والزراعي…الخ، أما إعادة التمويل فيعني تمويل محافظ القروض العقارية لدى شركات التمويل العقاري أو المصارف مقابل تحويل حقوقها في الرهن العقاري لهذه القروض للشركات الممولة، أي تقوم بإعادة التمويل لدى شركات أخرى مقابل القروض العقارية، وبالتالي تحصل على تمويل إضافي.

 أخيراً

تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنه سبق لنا وأن تحدثنا عن إمكانية دخول الكثير من المؤسسات العامة والنقابات المهنية التي لديها فوائض مالية مودعة في البنوك، إلى مضمار الاستثمار السكني لاسيما وأن قطاعنا العقاري وصل إلى مرحلة باتت تستدعي التدخل الحكومي الفعّال، ولعل أفضل السبل لاستمالة هذه الجهات هو تأهيل وتخديم المناطق النائية والبعيدة عن مراكز المدن بحيث تصبح أكثر جاذبية للاستثمار العقاري وتحقق جدوى اقتصادية للمستثمرين وأخرى اجتماعية لطالبي السكن، ويؤكد مستشار لدى أحد المصارف الخاصة أن أحد أهم الأسباب الحائلة دون تفعيل الاستثمار العقاري هي عدم وجود جدوى اقتصادية من المناطق المعروضة للتطوير العقاري، مشيراً إلى ضرورة الإسراع بإنجاز هذه المشاريع التي أخذت كثيراً من الوقت وآن الأوان لتكون لاعباً أساسياً في السوق، وعلى اعتبار أنها تحتاج لملاءة مالية كبيرة تصل إلى المليارات، فلا ضير أن تساهم بها المؤسسات المالية والنقابات والاتحادات ذات الفوائض، فالتمويل موجود لكنه يحتاج لمن يحسن إدارته وتوجيهه بحيث يحقق الغرض بتأمين معروض يستوعب الطلب المتنامي ضمن إطار المنافسة الشريفة.