أوروبا مجرد قوة مساعدة للولايات المتحدة
عناية ناصر
فشلت حرب أوكرانيا في جعل أوروبا قوة عالمية، وذات ثقافة إستراتيجية على عكس ما كان متصوراً، حيث إنها جعلت أوروبا في أحسن الأحوال، قوة مساعدة للولايات المتحدة. ولذلك، لا يوجد شيء اسمه سياسة أوروبية تجاه حرب أوكرانيا، وبدلاً من ذلك، فإن السياسة الغربية بقيادة الولايات المتحدة التي لا جدال فيها هي التي يتمّ تنفيذها تجاه هذه الحرب، والتي تهدف إلى تشديد العقوبات على روسيا وتسليح أوكرانيا قدر الإمكان.
كان من المتصوّر في بداية الحرب الروسية الأوكرانية أن هذه الحرب ستجعل أوروبا في نهاية المطاف قوة عظمى ذات قوة عسكرية وثقافة استراتيجية عالية، حيث كانت الزيادة الكبيرة في تكاليف الدفاع في الدول الأوروبية، وخطاب السلطات الفرنسية والألمانية تؤكد كلها هذا الادعاء. الآن، وبعد مضي أكثر من عام على اندلاع الحرب، فشل الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية في إجراء إصلاحات جوهرية من أجل اكتساب القدرة على ممارسة السلطة على المستوى العالمي، بل وفشلوا في اتباع تعليمات اندماج أسواق الدفاع الأوروبية. ولذلك، لا يزال أمن أوروبا يعتمد على الولايات المتحدة من حيث المعدات واللوجستيات، وأوضح مثال على التبعية للولايات المتحدة هو تأخر الحكومة الألمانية في إرسال دبابات “ليوبارد” إلى أوكرانيا.
لقد تسبّب قلق برلين في الواقع من تصاعد التوتر مع موسكو في رفض الحكومة الألمانية إرسال هذه الدبابات إلى كييف، كما أن إرسال سرب دبابات من قبل بريطانيا إلى أوكرانيا لم يستطع إقناع ألمانيا بالقيام بذلك، لكن بمجرد أن أعلنت حكومة الولايات المتحدة قرارها بإرسال دبابات “أبرامز” إلى أوكرانيا، اتبعت ألمانيا الولايات المتحدة وقامت بإرسال دبابات “ليوبارد “إلى أوكرانيا. وفي سياق متصل أدّت الحرب بين روسيا وأوكرانيا إلى تفاقم حالة انعدام الثقة السابقة بين الدول الأوروبية. وفي هذا الصدد، تعمل دول وسط أوروبا على تقليل اعتمادها الدفاعي على ألمانيا وفرنسا، حيث تحاول بولندا، على سبيل المثال، تقليص علاقاتها الدفاعية، وعقود الأسلحة مع ألمانيا، وتتعاون بدلاً من ذلك مع كوريا الجنوبية في هذا المجال.
بالنسبة لفرنسا، تعتقد دول وسط وشرق أوروبا أن إصرار فرنسا على دفع فكرة الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي سيقلّل من الدور الأمني للولايات المتحدة في أوروبا، وهو ما تراه هذه الدول غير مرغوب فيه على الإطلاق. ونتيجة لذلك فقدت ألمانيا وفرنسا الثقة في شركائهما في أوروبا الوسطى والشرقية، ودعتا واشنطن إلى كبح جماح سياسة التصعيد التي تنتهجها بولندا.
إن تعميق هذه الفجوة في أوروبا – بين أوروبا الغربية والوسطى والشرقية – جعل كلا جانبي القارة أكثر اعتماداً على الولايات المتحدة أكثر من أي وقت مضى، وعزّزت الحرب أيضاً بشكل أساسي فكرة احتواء الصين. لقد جعلت الحرب بين روسيا وأوكرانيا اعتماد أوروبا الاقتصادي على الصين أكبر وأكثر وضوحاً، ويحدث هذا في وضع يواجه فيه الاقتصاد الأوروبي تحديات مثل زيادة أسعار الطاقة والتضخم المرتفع الذي ما كان ليحدث لولا فرض عقوبات شديدة على روسيا.
إن زيارة المستشار الألماني أولاف شولز إلى بكين مع وفد تجاري وسط أزمة أوكرانيا، واستمرار عملية تسليم الموانئ في ألمانيا وأوروبا إلى الصين (على الرغم من الموافقة على أمر مراقبة الاستثمارات الصينية في أوروبا من خلال الاتحاد الأوروبي) تظهر الأهمية الاقتصادية للصين.
في الواقع، خلافاً لمزاعم الدول الأوروبية بشأن إدارة أزمة الطاقة، والتقليص السريع لاعتماد دول هذه القارة على روسيا وأوروبا، وخاصة دول مثل ألمانيا وإيطاليا في مجال الطاقة، فإنها لا تزال تعتمد بشكل كبير على النفط والغاز الروسيين، والذي من الصعوبة بمكان الآن إيقاف الاعتماد عليهما في أي وقت قريب.
لقد تمكّنت أوروبا من احتواء أزمة الطاقة التي سبّبتها حرب أوكرانيا بفضل واردات الغاز الطبيعي المسال غير المسبوقة في الأشهر الأخيرة، وتنويع إمداداتها من الطاقة، ولكن في الشتاء المقبل، ستواجه أوروبا التحدي الصعب المتمثل في ملء احتياطيات الطاقة الخاصة بها (بدون روسيا) ويجب عليها أن تلجأ إلى سوق الغاز المتقلب، وتشديد سياسة توفير الطاقة (الحاجة إلى خفض الطلب السنوي على الغاز بنسبة (10-15%).
يمكن القول بشكل عام، إن الحرب الروسية الأوكرانية تعتبر بمثابة فرصة ضائعة بالنسبة للأوروبيين، فرصة لم تفشل أوروبا في استغلالها فقط لتعزيز استقلاليتها الاستراتيجية لتصبح قوة عظمى في العصر الجديد من منافسة القوى العظمى، ولكنها كشفت أيضاً عن تبعية أوروبا الأمنية والاقتصادية للولايات المتحدة، كما أدّت الحرب إلى تفاقم وتعميق الانقسامات الداخلية في أوروبا، وهو تطور من شأنه أن يزيد من غموض فكرة أن تصبح قوة عظمى.