الانتخابات التركية ومصير المشاريع الجيوسياسية.. “طوران” أنموذجاً
البعث الأسبوعية- سمر سامي السمارة
لاشك أن الانتخابات الحالية في تركيا مصيرية ومهمة للغاية، لأنه من خلال الفائز – الرئيس الحالي أردوغان أو ممثل المعارضة كيليجدار أوغلو- سيتم تحديد التطورات اللاحقة لتركيا.
يتوافق هذا الرأي مع الواقع، بمعنى أن حدة المواجهة بين المرشحين الرئيسيين لأعلى منصب في الدولة لا تتعلق بموضوع صراع للقوى السياسية الرئيسية في تركيا على السلطة فحسب، بل بتأثير القوى الخارجية المهتمة، خاصة الولايات المتحدة على عملية ما قبل الانتخابات.
من الواضح أن أسباب هذا الاهتمام والقلق من جانب الولايات المتحدة في الحياة السياسية التركية مدفوعة بعدم رضا واشنطن عن سياسات أردوغان الخارجية والداخلية في الأونة الأخيرة، حيث ترى واشنطن أن تركيا قامت بتعزيز علاقاتها مع موسكو وبكين، فضلاً عن تراجع الديمقراطية في تركيا، وتقوية السلطة للرئيس، والقمع الجماعي الذي تمارسه السلطات التركية ضد المعارضين.
تعتمد الولايات المتحدة في نهجها على الإستراتيجية الإمبريالية التقليدية “فرق تسد”، فمن المؤكد أن واشنطن لا تنوي التخلي عن تركيا، لأنها تدرك الأهمية الإستراتيجية لجغرافيتها من حيث المصالح العسكرية لحلف الناتو، ومن حيث التجارة العالمية والاتصالات البرية والبحرية التي تمر عبر الأراضي التركية، كما أنها تهدف إلى استعادة احتكارها لتركيا.
يتحدث أردوغان عن حقيقة أن 80٪ من ترسانة الجيش التركي الحالية، يتم توفيرها من قبل المجمع الصناعي العسكري التركي، وهي بالطبع نتيجة لسياساته الخاصة. ومع ذلك، فإن التقدم التكنولوجي للمجمع العسكري الصناعي التركي يعتمد إلى حد كبير على دول الناتو الغربية.
من الجدير بالملاحظة أن نجاحات الاقتصاد التركي في ظل حزب العدالة والتنمية فقدت نسبياً الآن، حيث أدت الأزمة المالية في تركيا إلى معدل تضخم هائل بلغ ما يزيد على 89٪، وبالتالي، يحتاج الاقتصاد التركي إلى قروض مربحة، تضطلع فيها الدول الغربية والاحتياطي الفيدرالي بدور كبير. بالإضافة إلى ذلك، تفاقمت مشاكل تركيا المالية والاقتصادية الآن بسبب العواقب الوخيمة للزلزال المدمر.
عادة ما يستخدم المتنافسون جميع الوسائل لتحقيق النجاح في سباقات ما قبل الانتخابات، حيث يتجاوز خطاب المواجهة الحدود المسموح بها، أو يجذب المشاعر والروابط المؤسفة. اليوم، على سبيل المثال، يقارن أردوغان نفسه برئيس الوزراء السابق وزعيم الحزب الديمقراطي عدنان مندريس، الذي وصل إلى السلطة في عام 1950 على موجة من التوجهات المؤيدة لأمريكا في تركيا. وفي عام 1960 تم عزله من قبل جمال جورسيل، رئيس أركان القوات المسلحة التركية بأوامر من نفس الولايات المتحدة، بسبب شغفه بسياسة مستقلة، وقومية تهدد مصالح واشنطن وكتلة الناتو، ويعتبر أردوغان وأنصار اليمين أن إعدام عدنان مندريس ووزراء حكومته كان يوم مخز للأمة.
وفي الوقت نفسه، فإن أحد القضايا الرئيسية لتناقضات تركيا مع العالم الخارجي، جزئياً مع الغرب نفسه بقيادة الولايات المتحدة، هو المشروع الجيوسياسي “طوران”، أي إستراتيجية الوحدة التركية المتمثلة ببناء دولة على أسس قومية، بالإضافة إلى التحالف مع الدول التي كانت تدور في فلك “دولة طوران”.
نشأت الحركات الأيديولوجية والسياسية لقومية تركيا، ومشروع “طوران العظيم”، التي توطدت في أذهان القوى الحاكمة لحركة “تركيا الفتاة”، نتيجة حروب البلقان الفاشلة عشية الحرب العالمية الأولى، وفقدان جزء من أراضي الدولة العثمانية داخل الكتلة السياسية للإمبراطورية العثمانية.
تحت ضغط دول الحلفاء المنتصرة، أُجبر الأتراك المهزومون في الحرب العالمية الأولى على التخلي عن وضعهم كإمبراطورية، والتركيز على شكل من أشكال بناء الدولة الإقليمية. ومع ذلك، أظهر القرن الماضي بوضوح أن النخبة السياسية في تركيا الجديدة بدءاً من أتاتورك وانتهاءً بأردوغان، لم تستبعد إمكانية إحياء مكانتها الإمبراطورية في ظل ظروف تاريخية مواتية.
يعتبر التقييم الموضوعي للموقف النقدي لعدد كبير من البلدان والشعوب في ما يسمى بالفضاء ما بعد العثماني لفكرة إحياء الإمبراطورية التركية، أن البيئة الفكرية للأتراك تميل نحو الاتجاه الشمالي الشرقي للجغرافيا المستقبلية لإحياء الإمبراطورية على أساس مذاهب القومية التركية والقومية الطورانية.
في سياق هذا النموذج، أصبحت تركيا منذ معاهدة لوزان للسلام لعام 1923 تتجه بقوة نحو الغرب القوي والمعادي لروسيا، وذلك بالتناوب نحو إنكلترا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية. في المقابل، كان السياسيون الأتراك في سنوات الحرب الباردة يعتمدون على مشاركتهم في الحروب الغربية، والأنشطة التخريبية ضد الاتحاد السوفييتي لتقسيم روسيا، و تمزيقها، والحصول على فرصة لإعادة إحياء عقيدة طوران ذاتها. ويجب القول أنه بحلول نهاية القرن العشرين مع انهيار الاتحاد السوفييتي، أصبح هذا الاحتمال حقيقة واقعة بالنسبة لتركيا، والذي دفع الرئيس تورغوت أوزال في عام 1992 إلى إعلان أن “القرن الحادي والعشرين المقبل سيكون العصر الذهبي للأتراك “.
في الفترة الأخيرة، بدأت الجهود الجماعية لتركيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة تحت صيغة “شراكة الناتو من أجل السلام” ،أو بالأحرى “حركة الناتو إلى الشرق”، وكانت تركيا كجسر بين أوروبا وآسيا، بالاعتماد على الثقافة التركية، والتعاون في مجال الطاقة البديلة، واتصالات العبور الدولية في تشكيل ملامح جديدة لدخول تركيا وكتلة الناتو إلى دول ما بعد الاتحاد السوفييتي. وعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، ظهرت منصات عرقية وثقافية وإيديولوجية وسياسية واتصالات نقل ومنصات اقتصادية جديدة لتعاون تركيا الفعال مع البلدان التركية المشكلة حديثاً في رابطة الدول المستقلة، والتي تمتلك موارد طبيعية كبيرة ذات طبيعة استراتيجية.
في إطار هذه السياسة، شكلت تركيا وحدة هيكلية متخصصة للتكامل التركي منذ عام 1992، من الوكالة التركية للتعاون والتنسيق، إلى مجلس التعاون التركي في عام 2009، ومنظمة الدول التركية في عام 2021، حيث يستطيع الداني والقاصي أن يلاحظ تكثيف العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف لتركيا مع أذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان وتركمانستان.
ومع ذلك، يلاحظ العديد من المعارضين أو المتشككين في مشروع طوران أنه، في الماضي وخاصة اليوم أي بعد الزلزال المدمر، لا تملك تركيا القدرات المالية والاقتصادية الكافية لتنفيذ مشروع طوران في ظل قيادتها. علاوة على ذلك، تشكل فكرة طوران تهديداً للمصالح الوطنية لدول رئيسية في منطقة أوراسيا مثل روسيا وإيران والصين والهند.
بطبيعة الحال، هذه الإستراتيجية، التي ساهمت بريطانيا في إنشائها بشكل كبير في الماضي، تتوافق مع مصالح قادة العالم الأنغلو ساكسوني ضمن سياسة “فرق تسد”، حيث لا يزال “طوران” للندن وواشنطن وسيلة للسياسة الإقليمية الدولية لإضعاف روسيا وإيران، وتشكيل ممر وسطي جديد بين الصين وروسيا.