مجلة البعث الأسبوعية

المخرج سامي جنادي هل أبدو ناشزاً إن قلت إنني أحتكم لنفسي؟

أمينة عباس

بعد تخرجه من المعهد العالي للفنون المسرحية–قسم الدراسات كانت كتابة السيناريو مفتاحه إلى عالم الإخراج الذي أغراه أكثر، فتتلمذ على يد شيخ المخرجين هشام شربتجي كمخرج مساعد في عدد من الأعمال التي مكَّنته من امتلاك الكثير من أدوات العمل التلفزيونيوالتي جعلته مؤهلاً فيما بعد للعمل مع الراحل حاتم علي في أعماله الضخمة بصفة تعاون فنيومخرج وحدة تصوير ثانية في “صلاح الدين الأيوبي، صقر قريش، ربيع قرطبة، ملوك الطوائف” واليوم يمتلك في رصيده كاتباً ومخرجاًعدداًكبيراً من الأعمال الهامة، وقد تابعه المشاهد في شهر رمضان بعملين هما:”ذئاب الليل” عن نص كتبه هاني السعدي منذ سنوات طويلة ومع هذا لم يتردد في تنفيذه ليعيد من خلاله الفانتازيا إلى الواجهة الدرامية، رافضاً وصف ما أقدم عليه بالمغامرة، في حين أطل على المشاهد بمسلسل آخرهو “دفا” الذي يحمل من اسمه نصيباًوهو من كتابة بسام مخلوفإنتاج المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي.

*ما تقييمك للمشهد الدرامي خلال موسم رمضان؟

**هذا حمل ثقيل يصعب حمله، والأفضل أن يوجَّه للنقاد المختصين، فهو عملهم الأساس لأن الأمر يحتاج لبحث طويل، وإن كان لا بد من القول بهذا الشأن فسيكون بمثابة انطباع عام، فمن حيث عدد الأعمال فقد كان جيداً ومتابَعاً من قبل جمهور عريض، واستطاع بعضها على الصعيد الفني وعمل الممثل تصنيع صورة عالية الجمال لتوفر عامل الإنتاج القوي والوقت الذي يهيئ الظروف المناسبة لإطلاق كوامن الإبداع، أما على المستوى الفكري ببعده الاجتماعي والثقافي فهذا أمر أدعه للعارفين والمختصين، مع الإشارة إلى أن هذه الأعمال من الناحية الاقتصادية ساهمت بتشغيل عدد لا يستهان به من الفنانين والفنيين بمختلف شرائحهم، وهذا أمر لا نستطيع التغاضي عنه في ظل الظروف التي نعيشها.

*كيف تتابع ما تنجزه أنت؟بعين المشاهد العادي أم بعين الناقد؟

**السؤال يطرح سؤلاً آخر: ما الفارق بينهما؟ أليس الناقد مشاهداً والمشاهد ناقداً ولو بالمفهوم العام للمصطلح، على الأقل من خلال الرضا والقبول بالمتابعة أو بالرفض والإحجام عن المتابعة،أي من خلال استخدام الانطباعات الحسية الأولى لعملية التلقي، أحببت أو لم أحب، ومن بعدها يأتي عمل الناقد بالإجابة على السؤال: لماذا أحببت ولماذا لم أحب؟ وذلك بتشريح العمل فنياً وفكرياً حسب تكوينه المعرفي والفكري، وبالتالي الجمالي.. بالنسبة لي أحاول جاهداً أن أكون مشاهداً قدر الإمكان لأن العين الناقدة تفعّل عمل العقل على حساب دور الحواس التي بالأساس يتوجه العمل إليها، وهذا لا يعني التغاضي والقبول بالمنجز بعيداً عن الأخطاء التي تشكل جزءاً ومكوناً يصعب التخلص منه في العمل التلفزيوني لأسباب عدة، أهمها عامل الوقت لتبقى نسبة التفاوت بين عمل وآخر بكمّ الأخطاء التي يحتويها.

*ماالذي شجعك على خوض تجربة الفانتازيا “ذئاب الليل”؟ وهل كانت بالنسبة لك مغامرة؟ وعلى ماذا راهنت؟

**بعد قراءتي للنص وجدتُ أنه قابل للاشتغال عليه،خاصة وأن العناصر الأساسية المطلوبة من النص متوفرة وحاضرة إلى حد ما، أما عن كونه يشكل مغامرة فيجب التذكير بأعمال سابقة من هذا الصنف لاقت نجاحاً وقبولاً عند جمهور عريض على مساحة كبيرة من الوطن العربي، وبرأيي أن كل الأعمال تحمل حس المغامرة،ويمكنني القول أن المغامرة في العمل الاجتماعي المعاصر أكثر خطورة وذلك لتكرار وتشابه الثيمة الأساسية في الكثير من الأعمال،لتكون مهمة القائمين على العمل بدءاً من الكاتب وانتهاءً بالمخرج البحث عما يجعلهم متميزين ومختلفين عما سبق من خلال تقديم العمل بأسلوب جديد.. ورهاني في العمل كان من خلال البحث عن أسلوب يتناسب مع المحتوى ضمن الظروف المتاحة، وأهمها عامل الوقت الذي كان خانقاً بالرغم من توفر الإنتاج الجيد، حيث تفانت الشركة المنفذة في تأمين احتياجات العمل، إلا أن عامل الوقت كان عقبة كبيرة،وهنا لا أبرر ولا أدافع عن بعض الأخطاء التي وجِدت، فالخطأ رفيق الفعل البشري، وعلينا أن نتعلم منه لا أن نغض الطرف عنه ونزهو بما أُنجز.

*”دفا” و”ذئاب الليل” عملان مؤجلان من العام الماضي لك، فمتى يؤثر التأجيل على العمل برأيك؟

**التأجيل أمر مؤسف حقاً، ليس فقط من أجل الجهود الكبيرة التي تُبذل عادة من قبل مجموعة كبيرة من الفنيين أصحابالجهد الأكبر والفنانينفي سباق مع الزمن للانتهاء في الوقت المحدد، بل يتعداه لمسألة أكثر مأساوية إن صح التعبير وهيأننا في الكثير من الأحيان نعرف الأخطاء التي وقعت والهنّاتفي كل مراحل العمل بدءاً من التصوير في الموقع وانتهاءً بآخر العمليات الفنية والتي نضطر لقبولها كواقع مسلّم به لأننا ملزمون بتوقيت،وكان بالإمكانتجاوز المشكلة لو كنا نملك القليل من الوقتلمتابعة العمل في مرحلتَي المونتاج والمكساج بطريقة سليمة وصحيةبدلاً من المتابعة بعد الانتهاء من يوم عمل طويل وشاق،وبعد كل هذا العناء يتم التأجيل لتتشكل ماتشبه الخيبة ليس فقط عند صنّاع العمل بل ومتابعيه أيضاً لأنه حين يُعرض في العام الذي يليه يكون كمن خسر شيئاً من طزاجته.

*كيف تبدو العلاقة بين الكتابة والإخراج بالنسبة لك؟

**الكتابة هي الأصل والأساس، وهنا أتحدث عن الكتابة بمفهومها الواسع،فنحن لانخلق الحكاياتإنما نعيد تشكيلهاإذا كنا نملك ناصية الأدوات القادرة على التعبير بالقول والكتابة والوعي والمعرفة لأن الكتابة مسؤولية وهمّ، وأنا من خلال عملي كمخرج لا أرى أنني غادرت عالم الكتابة بل بقيتُ في رحابها مع اختلاف الأسلوب والأدوات،فالمخرج كاتب يمتلك أدوات أكثر من القلم هيأدوات الحياة نفسها ليعيد تخليقها بما ينسجم مع قيمه الأخلاقية والفكرية والجمالية ليغدو نص الكاتب مفردة من مفردات العمل، وإن كانت المفردة الأساس والأصل.

*وكمخرج كيف تتعامل مع نصوصك التي تخرجها؟

**أتعامل مع النص من الناحية العملية والتقنية حتى وإن كان من كتابتي بحيادية وبمرونة عالية، بحيث أجري عليه التعديلات اللازمة التي تفرضها ظروف العمل أثناء التصوير والمستجدات التي تحدث أثناء التنفيذ،فعلى سبيل المثال قد لايتطابق المكان المُختار للتصوير مع ماوصفه الكاتب بدقة تفاصيله، أو قد يتم اختيار ممثل لأداء شخصية ما بمواصفات تختلف عن بعض مواصفات الشخصية على الورق،وهذا ينطبق على الإكسسوارات والملابس وغيرها والتي تفرض عليّ وعلى أي مخرج الاشتغال عليها بشكل ميداني لأن مرحلة التصوير هي الانتقال من على الورق إلى شكل من أشكال الحياة النابضة بالروح، ومن الطبيعي أن يكون انحياز المخرج وخياره الأخير لنبض الحياة حتى وإن كان هو صاحب الكلام وكاتب النص، وأنا أفضّل أن أتعامل مع النصوص التي يكتبها آخرون،حيث يكون العملأكثر غنى وبريقاً لأنه نتاج تلاقي أكثر من عقل، وهذا يخلق تفاعلاًأعلى وأجمل.

*عملتَ في بداياتك مع هشام شربتجي والراحل حاتم علي.. حدّثنا عن تجربتك معهما؟

**شاءت الظروف بعد التخرج أن أكون واحداً من أسرة الاخراج الكبيرة في فيلم “الكومبارس”لنبيل المالح، ولكثرتنا كانت تجربة عادية بالنسبة لي لم أعرف أن أستفيد منها جيداً لقلة خبرتي في المجال العملي حينها وعدم قدرتي على المبادرة،ومع ذلك كانت فرصة للتعرف على الأجواء العامة..وبعد انتهاء التجربة طال انتظاري كثيراً إلى أن أخبرني رسول من ابن دفعتي في المعهدعمار مصارع بأنه عليّ الذهاب في الصباح إلى مكتب الشركة التي ستقوم بإنتاج مسلسل عن نص كتبه، وأن المخرج هو الأستاذ هشام شربتجي، وكان اللقاء الأول بيننا، وماجعله خاصاً ومميزاً وخلق ثقة كبيرة بيني وبينه اشتغالي مع الكاتب على النص وإجراء تغييرات فيه خلال مدة قصيرة،ومن ثم بدأ التصوير، لذا أستطيع القول أنها كانت تجربة غنية بكل تفاصيلها مكَّنتني من امتلاك الكثير من أدوات العمل التلفزيوني، ثم سرعان ما تكرر تعاوني مع شربتجيمن خلال نص من كتابتي هو ثلاثية “رسائل أبو سعيد” ومن ثم تكرر التعاون في “عيلة خمس نجوم” وبعد انقطاع أعدنا اللقاء في مسلسل “أحلام أبو الهنا”ولاشك أن تجربتي معه كانت غنية وأدين له بالكثير، فهو أستاذي ومعلمي الأول، ومنه تعلمت الكثير، أما الحديث عن الغائب/الحاضر حاتم علي فهو متعب وجارح ولا أستطيع الخوض في التفاصيل،ولكن سأتحدث عما فعله بالموت لربما تتضح لنا قدرته الخلاقة على الإبداع حتى بعد أن مضى..لقد رحل حاتم علي في زمن بات فيه الموت أمراً عادياًوخبراً متكرراً لايدعو للدهشة أو الاستغراب،وقد بات أليفاًوملاصقاً لنا حتى بتنا لانراه.. إن مافعله حاتم علي هو أنه أعاد للموت رونقه وزهوه الأولوجلاله المهيب،وبهذا استطاع أن يبدو وكأنه الميت الوحيد.. هذا هو حاتم علي الذي بكتْه الجموع.

*أنت من أكثر المخرجين الذين أخرجوا مسلسلات ذات بإنتاج عربي،فكيف تقيّم هذه التجربة؟

**تجربة العمل خارج الوطن بقدرماتحمل من المتعة وتضيف خبرة من خلال التعرف إلى عوالم جديدة تحمل غصة ووجعاً بعد المراجعة وأخذ مسافة منها.. عندي أكثر من عشرين عملاً،جلّها صوّر في بلدنا إلاأن عرضها وجمهورها كان تبعاً للجهة المنتجة بالدرجة الأولى،أي أن شجيراتي التي زرعتُها كانت موزعة على مساحة شاسعة من الأرض بخلاف لو أنها زُرعت في أرض واحدة تتناسب مع الحجم والكم لكانت شكّلت مايشبه الغابة بخلاف الموزع على أرض شتات.

*باتت معظم الأعمال اليوم تقدَّم عبر المنصات، فما هي الأعمال التي تغري هذه المنصات؟

**في البداية لا بد من الإشارة إلى أنه من البديهي أن لكل محطة على اختلاف أشكالها وأنواعها أهواء وأغراض من وراء كل عمل تقوم به من نشرة الأخبار وأحوال الطقس،الى الأعمال الدرامية التي هي من أخطر المواد بسبب قدرتها على الوصول إلى لاوعي المتلقي من خلال التسلل الهادئ عبر أحاسيسه، وهنا مكمن الخطورة في الأعمال الدرامية،أيفي قدرة تأثيرها على الوعي بعد استقرارها في اللاوعي بالطريقة التي تخلقها متعة المشاهدة، وان كانت بعض المحطات تراعي حرمة المنازل التي تشكل البنية المجتمعية على مساحة الوطن الواسع وذلك بخلق ضوابط أخلاقية معينة دون الحرص على الجوانب الأخرى الفكرية والثقافية والجمالية،أي أنها تحافظ على الشكل الأخلاقي وتنسى مضمونه العميق، أما المنصات فقد أعفت نفسها من أي قيد وتحرّض على كل ماهو إشكالي ومثير بالمعنى البغيض للمفهوم لا بمعناه الخلاق والإبداعي، وهنا لا أعمم حتى لاأُتهم بالعمى وفقدان البصيرة،فهناك بعض المحطات والمنصات تسعى لتبني الأجمل والأفضل ونتمنى لو تعم وتزيدوأن تكون المنصات فرصة لقول المشتهى والمسكوت عنه أو مالا نستطيع قوله.

*لمن تحتكم في تقييم ما تنجزه؟ للجمهور أم للنقاد؟

**هل أبدو ناشزاً إن قلت إنني أحتكم بدايةً لنفسي؟أنا أعرف إلىأي الحدود وصلت وأين أصبت وأين أخفقت،وهذا لاينفي الأهمية البالغة للمتلقي الذي هو الهدف الأسمى والمحطة الأخيرة في أي عمل والذي من أجله تُخلق الأعمال على أشكالها وألوانها، ولأن المتلقي ليس واحداًبل هو أطياف المجتمع بتنوعها وغناها تكمن الصعوبة في العمل التلفزيوني بخلاف المسرح والسينما، فصانع العمل في التلفزيون لايستطيع أن يختار شريحة معينة من المجتمع ويتوجه بالخطاب إليها، فهو يتوجه للجميع بتنوعهم واختلاف تكويناتهم، بينما في السينما والمسرح يمتلك المبدع هذا الخيار، وهنا أتحدث عن هذه العلاقة فقط، ولسنا بصدد الحديث عن بقية الفوارق وهي الأكثر جوهرية، ومنها شكل وآلية التلقي، وبالتالي مادام العمل موجهاً للجميع فسيكون الهمّأن يرضي المنتج هذا الكل، وهي غاية تُدرك رغم صعوبتها،أو نسعى للوصول إليها.. بالمحصلة هذه إشكالية يصعب حلّها أو التكهن بها،وأحياناً يحصل عمل بسيط وساذج على إجماع وقبول، وبنفس الوقت قد يحصل الإجماع على عمل جيد، وهذا نشهده ونتابعه في كل موسم.. ألا يخلق هذا سؤالاً محيراً وإشكاليا تصعب الإجابة عليه؟ هنا تبدو الحاجة ملحّة لعمل الناقد وليس لرأي الصحفي السريع، مع احترامي وتقديري لعمل الجميع لأن الناقد الحقيقي عندما يتصدى لدراسة أعمال درامية نالت الإعجاب العريض مع اختلاف جذري بقيمة كل منهما يحتاج إلى دراسة للبنية المجتمعية ودراسة سكيولوجيا التلقي وإلى ماهناك من علوم ليستطيع أن يقارب هكذا حالة وهذا هو جوهر وعمل النقد الذي قد يوجه القائمين على الأعمال الدرامية نحو الموضوعات والقيم التي من الضروري طرحها في وقت من الأوقات، إضافة إلى دوره  في تشريحها بشكل دقيق وعلمي وبيان تأثيرها السلبي والإيجابي على المجتمع، أما الأحكام السريعةفي المدح أو الذم(وهو مفهومنا العام عن النقد)فإنها لا تفيد بشيء.