حسابات الدول الأوروبية الخاطئة.. تبعيّةٌ كاملة لواشنطن وانهيارٌ وشيك لاقتصاداتها
البعث الأسبوعية – ميادة حسن:
لا شكّ أن الولايات المتحدة الأمريكية تمكّنت من جرّ الدول الأوروبية إلى صراع مباشر مع روسيا من خلال الحرب في أوكرانيا، حيث استخدمت جميع الوسائل المتاحة لاستدراج روسيا إلى شنّ عمليّتها العسكرية الخاصة هناك، للوصول من خلال ذلك كلّه إلى الإيحاء بأن الوحش الروسي، إن صحّ التعبير، ما إن ينتهي من التهام أوكرانيا حتى تنفتح شهيّته للانقضاض على سائر أوروبا، وقد استفادت واشنطن في ذلك عملياً من الحقد القديم الذي تضمره أغلب الدول الأوروبية للإمبراطورية الروسية والشعب السلافي عموماً، فضلاً عن الاختلاف الطائفي القائم بين شرق أوروبا وغربها، وبالتالي تمكّنت واشنطن من إقناع حلفائها الأوروبيين الغربيين أولاً بضرورة فرض عقوبات على موسكو، لفرض هزيمة استراتيجية عليها وإضعافها ومنعها بالمحصّلة من إنهاء المكاسب الأوروبية السابقة، وخاصة لدى دول الاستعمار القديم فرنسا وبريطانيا والنمسا وهولندا وإسبانيا وإيطاليا، وهي دول ناصبت روسيا العداء تاريخياً، ولم تكن العلاقة بينها وبين روسيا ودّية بشكل عام.
وبالنسبة للدول التي كانت ضمن ما سمّي سابقاً المعسكر الشرقي وانضمّت تباعاً إلى حلف شمال الأطلسي “ناتو” بعد انهيار حلف وارسو، فقد كانت مضطرّة للانصياع لرغبات الغرب لأنها كبّلت نفسها منذ انضمامها إلى حلف الناتو بمجموعة من الاتفاقيات سواء مع منظومة الحلف أم مع الداعم الأكبر له وهو الولايات المتحدة الأمريكية، ومن هذا الباب لا تستطيع مطلقاً أن ترفض الإملاءات الأمريكية في هذا الجانب، باستثناء بعض الدول التي قرّرت الرفض مثل هنغاريا وصربيا، مع علمها المسبّق أن الغرب عموماً ضمّها إلى هذه المنظومة فقط للوصول إلى محاصرة روسيا، وهو في الحقيقة يكنّ لها حقداً كبيراً ويشمئزّ من سكانها، ويعدّهم بشراً من الدرجة الثانية.
أوروبا التي انصاعت بالعموم للرغبة الأمريكية بمحاصرة روسيا بدأت تدرك تدريجياً أنها وقعت في فخ كبير لا تستطيع الخروج منه، فجميع الوعود الأمريكية بتغطية النقص الحاصل لديها في مجال الطاقة ذهبت أدراج الرياح، وكل الحلول الآنية التي تمّ الاتكال عليها بدأ يظهر فشلها على الأرض، حيث أقرّت وكالة “بلومبرغ”، في مقالة لها، بفشل خطة الاتحاد الأوروبي لزيادة كمية الكهرباء التي يتم توليدها من طاقة الرياح، بهدف التخلّي عن الغاز الروسي.
ووفقاً للمقالة، نشرت ألمانيا وبلجيكا وهولندا والدنمارك منذ حوالي عام مذكرة بخصوص تسريع بناء توربينات الرياح، وتم تحديد هدف الحصول على 65 جيجاوات بحلول عام 2030.
ولكن النتائج الحالية لتحليل النشاطات بمجال توليد الكهرباء من طاقة الرياح، أظهرت أن هذه الأهداف لن تتحقق.
وقال راسموس إيربو رئيس القسم الأوروبي في شركة Orsted A/S التي تعدّ، أكبر مصمّم في أوروبا لمنصّات طاقة الرياح البحرية: “أحد مخاوفي هو أننا لا نتحرّك بالسرعة الكافية. لن نحقق أهدافنا بحلول عام 2030”.
أما على المقلب الآخر، فقد بدأت روسيا فعلياً باتخاذ إجراءات مضادة للعقوبات الغربية المفروضة عليها، وخاصة فيما يتعلّق بمصادرة الأصول الروسية في الدول الغربية، حيث تحدّث الناطق الرسمي باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، عن أسباب إصدار الرئاسة الروسية مرسوماً يتضمّن حجز أصول أجنبية في روسيا لدول اتخذت إجراءاتٍ عدائية بحقها.
وأشار بيسكوف إلى أن الغرب يقوم بوضع إطار تنظيمي للانتقال من الإدارة المؤقتة إلى المصادرة الفعلية للأصول الروسية، ولفت إلى أن المرسوم الرئاسي حول الإدارة الخارجية للأصول الأجنبية جاء رداً على الإجراءات العدوانية للدول غير الصديقة.
ووقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوماً لحجز أصول أجنبية في روسيا، منها 83.73% من أسهم شركة “يونيبرو” (Unipro) الروسية، المملوكة لشركة “يونيبرو” الألمانية و98% من أسهم “فورتوم” الروسية (Fortum) المملوكة لشركة فنلندية.
وأكبر دليل على أن العقوبات الغربية على الاتحاد الروسي جاءت بنتائج عكسية، أن جميع الجوانب التي استهدفها الغرب بعقوباته تأثر بها البر الأوروبي مباشرة، ما أثار موجة عارمة من الاستياء على المستوى الشعبي ومستوى الفعاليات والشركات الاقتصادية في أوروبا، بينما انتعشت هذه الجوانب في الجانب الآخر بعد تمكّن الاقتصاد الروسي من التأقلم مع الواقع الجديد، وفتحه أسواقاً جديدة لمنتجاته لم يكن بالإمكان الاستفادة منها طوال الفترة الماضية.
وفي الواقع يعيش الاقتصاد الأوروبي مرحلة حساسة جدّاً بالقياس إلى النتائج الكارثية التي خلّفتها العقوبات الغربية على روسيا، حيث بدا هذا التأثر واضحاً في مختلف القطاعات، وخاصة المتعلّقة منها بالطاقة، إذ تأثرت الصناعات الأوروبية بقوة مع نقص موارد الطاقة بفعل الإصرار على الاستغناء عن المصادر الروسية التي كانت إلى حدّ كبير تحقّق للمنتجات الأوروبية تنافسية في الأسواق العالمية بسبب رخص أسعارها، أما الآن فقد أصبح الاقتصاد الأوروبي يئنّ تحت ضغط ارتفاع أسعار حوامل الطاقة، الأمر الذي أدّى إلى تضخّم واضح في أسعار السلع المنتجة، وبالتالي فقدان تنافسيّتها وكسادها.
ومن هنا، صرّح مساعد الرئيس الروسي مكسيم أوريشكين، بأن الاقتصاد الأوروبي بمعدّلات نموّه المنخفضة وخسارة قدرته التنافسية أصبح جزءاً محتضراً من الاقتصاد العالمي.
وأشار إلى التصريح الأخير لرئيس الدبلوماسية الأوروبية جوزيب بوريل، بأن الحالة الجيّدة للاقتصاد الأوروبي على مدى العقد الماضي كانت تستند إلى ثلاثة عناصر رئيسية، أولها الاعتماد الإيجابي على إمدادات الطاقة من روسيا.
ولا شكّ أن ارتفاع أسعار الكهرباء والوقود والمواد الغذائية في أوروبا والولايات المتحدة، كان نتيجة للسياسات الغربية الخاطئة في هذا السياق، حيث بدا واضحاً أن العقوبات جاءت بنتائج عكسية، على الاقتصاد العالمي برمّته وليس فقط على الجهات المتبنّية للعقوبات، وإن كانت الولايات المتحدة قد استفادت جزئياً منها في قطاعي الطاقة والأسلحة.
ويكفي أن نشير هنا إلى أن مشروع السيل الشمالي كان يمكن أن يشكّل رافعة كبيرة للاقتصاد الألماني الذي سيدخل في شراكة مع الاقتصاد الروسي تمهّد لتحالف بين الدولتين يمكن أن يجعل أوروبا تستغني نهائياً عن التبعية لواشنطن في كثير من الأمور، وهذا بالضبط ما جعل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تصرّ على منع استكمال هذا المشروع، وصولاً إلى إعاقته بعمل إرهابي بات مكشوفاً أمام العالم بعد تصريحات الصحفي الأمريكي المخضرم سيمور هيرش الذي أكد ضلوع واشنطن بشكل مباشر في هذا العمل الإرهابي.
وأما بالنسبة إلى الوضع على الجانب الروسي فإن التصريح الأخير لنائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك، بأن روسيا تستبدل بنجاح التقنيات الأجنبية المستخدمة في قطاع الطاقة، يؤكّد أن الغاية المرجوّة من العقوبات لم تتحقّق، وأنها ساعدت في وجود ابتكارات روسية لاستخراج النفط تحت الماء والحفر المائل واستخراج احتياطيات موارد الطاقة في أماكن صعبة، وأن تقنيات تسييل الغاز المحلية بسعة مليون طن موجودة بالفعل ويتم الآن تثبيت خطوط إنتاج بسعة 3 ملايين طن، الأمر الذي سيساهم في تطوير التقنيات المتبقية المطلوبة للصناعة الروسية، بما فيها مصادر الطاقة المتجدّدة.
وفي النهاية، ربّما يكون تصريح الرئيس الروسي بأن العقوبات الغربية وجّهت ضربة خطيرة للاقتصاد العالمي بأسره، أوضح توصيف لما آل إليه الاقتصاد الغربي من كوارث، ولن تكون هناك عودة لاقتصاد أوروبي مزدهر بعد النكسات الأخيرة.